Date: Jun 1, 2018
Source: جريدة النهار اللبنانية
الانحسار الديموقراطيّ العالميّ: التسلطية تقارع الشعبوية - صلاح أبوجوده
مع انهيار سياسة ليبراليّة السوق في العام 2008، بلغ انحسارُ موجة التفاؤل التي عمّت العالم بمستقبل زاهر للديموقراطيّة أشدَّه، وهي موجة بدأت في أعقاب الثورات السلميّة الملوّنة التي حدثت في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ولا سيّما في وسط أوروبّا وشرقها. فقد بدأ التراجع الديموقراطيّ يتسارع في الديموقراطيّات الحديثة والضعيفة متأثّرًا، من جهة، بمقاومة الأنظمة التسلّطيّة وبازدواجيّة معايير السياسات الخارجيّة التي انتهجتها الولايات المتّحدة الأميركيّة وحلفاؤها؛ وبانهيار سياسة الأسواق المفتوحة والابتعاد عن مركزيّة الغرب أو القطب الأُحاديّ، من جهة ثانية. 

غير أنَّ القلق على مستقبل الديموقراطيّة أخذ يتفاقم منذ حوالى نصف عقد، عندما بدت حصون الديموقراطيّة نفسها مهدّدة من داخلها، مع صعود الحركات الشعبويّة وأحزاب اليمين المتطرّف، كما بيّنت نتائج الانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة إبّان هذه المدّة في بلدان عديدة، منها: إيطاليا والنمسا وألمانيا وفرنسا وهولندا والسويد وبريطانيا والولايات المتّحدة الأميركيّة، ويُضاف إليها ديموقراطيّات حديثة نسبيًّا في بلدان مثل هنغاريا وبولندا وغيرهما.

لقد قامت في وجه المدّ الديموقراطيّ الذي تنامى مع الثورات الملوّنة الأوروبيّة، الأنظمة التسلّطيّة والأوتوقراطيّة والتيوقراطيّة، وبوجه خاصّ تلك التي سمّيت حينذاك بــ "الخمسة الكبيرة"، وهي: الصين وروسيا وإيران والسعوديّة وفنزويلّا. فبالرغم من اختلاف مصالح أنظمة هذه الدول بل وتعارضها في بعض الأحيان، فقد برزت ثمّة حاجة مشتركة بينها تتمثّل باحتواء المدّ الديموقراطيّ. وقد تميّز النظام الروسيّ من بين هذه الأنظمة بانتهاج سياسة خارجيّة دوليّة حيويّة رافقها أحيانًا استخدام القوّة العسكريّة، جعلته يبدو محور استقطاب الأنظمة التسلطيّة ومصدر إلهام لها، في ظلّ عجز الولايات المتّحدة الأميركيّة والدول الأوروبيّة عن انتهاج سياسة واحدة تجاهه. فعلى الصعيد السياسيّ، سُجّل تقارب روسيّ وطيد مع الصين وإيران وفنزويلّا. وعلى الصعيد العسكريّ، اجتاح الجيش الروسيّ جورجيا العام 2008، وشبه جزيرة القرم العام 2014، وفي العام 2015 بدأ تدخّله في سوريا لدعم قوّات النظام. أمّا داخليًّا فسادت سياسة التشدّد والبطش. إذ إنّ وسائل الإعلام الأشدّ نفوذًا تخضع لرقابة النظام، والمنظّمات غير الحكوميّة، ولا سيّما تلك التي تُعنى بحقوق الإنسان تتعرّض لتضييق خانق، وكذلك الأمر في ما خصّ المعارضين السياسيّين الذين يتعرّضون للقمع. وتترافق هذه السياسة الداخليّة ودعاية حكوميّة تهدف إلى تقوية الروح القوميّة حول شخص "الرئيس القائد"، وإظهار أهميّة استرجاع موقع روسيا دولةً عظمى، وانتقاد الغرب الاستعماريّ وديموقراطيّاته. ويأتي دعم النظام الروسيّ أو تشجيعه المتعدّد الوجوه أحزابَ اليمين المتطرّف والحركات الشعبويّة الأوروبيّة، فضلاً عمّا يُحكى عن دعمه انتخاب الرئيس ترامب، ليبلغ في تثبيت نموذجه عالميًّا مبلغًا متقدّمًا جدًّا. 

أمّا في ما خصّ الشرق الأوسط، فالساحة تبقى مفتوحة للأنظمة التسلّطيّة والتيوقراطيّة، إذ أخفق مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أطلقته إدارة جورج بوش الابن العام 2004، والانتفاضات العربيّة في إحداث تغيير. فالإدارة الأميركيّة المذكورة أعطت الأمن، ومحاربة الإرهاب، والحفاظ على مصالحها وحلفائها الأولويّة، واكتفت بالمناداة بديموقراطيّة سطحيّة بل وساذجة، تقوم على مجرّد إجراء انتخابات عامّة في بعض البلدان، أو ممارسة ضغوطات ديبلوماسيّة لإجراء إصلاحات إداريّة واقتصاديّة شكليّة. لقد غاب كلّ دعمٍ لتكوين قواعد شعبيّة تؤمن بالديموقراطيّة، وغابت كلّ سياسة اقتصاديّة وتربويّة جدّيّة تضمن النموّ الاقتصاديّ والنهضة التربويّة. إذ إنّ الحيويّة الديموقراطيّة تفترض مواكبة التطوّر الاقتصاديّ وتحسين الأوضاع المعيشيّة والتربويّة والخدماتيّة الأخرى، فضلاً عن نزاهة القضاء واستقلاله. وأكثر من ذلك، لم تتردّد إدارة الرئيس بوش في الدفاع عن انتخابات غير نزيهة في دول تُعدّها صديقة، وتنتقد انتخابات جرت في دول أخرى غير صديقة، فضلاً عن استمرار دعمها اللامشروط سياسات دولة إسرائيل العنصريّة. وفي الواقع، انتهت سياسة الإدارة الأميركيّة، من جهة، إلى توطيد الأنظمة التسلّطيّة التقليديّة، وإلى إذكاء الانقسامات المذهبيّة في العراق وقد ارتبطت بالصراع السعوديّ - الإيرانيّ أو ما يُسمَّى بالصراع السنيّ - الشيعيّ الذي ما لبث أن شمل أكثر من بلد عربيّ، من جهة ثانية.

ومن ثمّ، برزت إخفاقات الانتفاضات العربيّة لتؤسّس لما يشبه الزمن الذهبيّ للأنظمة التسلّطيّة والتيوقراطيّة في البلدان العربيّة بل والشرق أوسطيّة عمومًا، مع ازدياد نفوذ الأحزاب والحركات الإسلاميّة شعبيًّا بفضل الدعم الذي تحصل عليه من تلك الأنظمة، وازدياد استخدام النظام الإيرانيّ سياسة القمع داخليًّا والتوسّع العسكريّ إقليميًّا وإن بالواسطة، وتدهور الديموقراطيّة في تركيا على نحوٍ مأسويّ، وبوجه خاصّ في أعقاب الانقلاب العسكريّ الفاشل العام 2016.

من جهة أخرى، لم يصطدم تأثير الغرب ونفوذه في الترويج للديموقراطيّة بازدواجيّة معايير سياسات الدول الغربيّة وفي طليعتها الولايات المتّحدة الأميركيّة فحسب، بل ببروز عالم متعدّد الأقطاب اقتصاديًّا بالرغم من احتفاظ الولايات المتّحدة الأميركيّة فيه بمكان مميّز، في إثر الأزمة الماليّة العالميّة. ذلك أنّ الثقل الاقتصاديّ والماليّ أصبح موزّعًا على عدد غير قليل من البلدان، مثل البرازيل والمكسيك وكوريا الجنوبيّة وتايوان والهند والصين. ولا شكّ في أنّ لهذا التغيير تأثيره السلبيّ في مستقبل الديموقراطيّة، إذ تضعف مركزيّة الغرب التي طالما عُدَّت ضمانة لنفوذ قيم الحداثة عالميًّا، ومنها الديموقراطيّة الليبراليّة وحقوق الإنسان.

غير أنّ التغيير الكبير حصل ويحصل منذ ما يقارب نصف عقد من الزمن في الدول الديموقراطيّة العريقة، بسبب تصاعد أحزاب اليمين المتطرّف والحركات الشعبويّة فيها. ويستند هذا التصاعد أساسًا إلى خطاب يُعادي الأجانب وينتقد اهتزاز الأمن الاقتصاديّ. ففي ما خصّ المسألة الأولى، يُصوّر المهاجرون واللاجئون وكأنّهم باتوا مجتمعًا موازيًا للمجتمع الأصليّ المضيف، بل أضحت تقاليدهم وأخلاقيّاتهم وثقافاتهم التي تحميها سياسة التعدّد الثقافيّ التي تُطبَّق من دون تمييز، خطرًا على هويّة البلاد نفسها وقيمها التقليديّة. فكيف يمكن مجتمعًا يقوم على المبادئ الديموقراطيّة وقيم حقوق الإنسان ومجموعة العناصر التي تكوّن الإرث الثقافيّ والتاريخيّ الخاصّ بشعبه، أن يحضن جماعات تختلف عنه في قيمها وإرثها؟ ألا يشعر السكّان الأصليّون إذذاك بأنّهم أصبحوا غريبين عن مجتمعهم الذي نشأوا فيه؟ وتُلْحَق مسألةُ الإرهاب غالبًا في ما تقدّم، إذ تبدو جماعات المهاجرين أو اللاجئين أرضًا خصبة للإرهابيّين أو على الأقلّ معبرًا لدخولهم بلدان الغرب.

أمّا في ما يتّصل بالأمن الاقتصاديّ فتوفيره مرتبط بنجاح الديموقراطيّة الليبراليّة، إذ إنّ المناخ المريح اقتصاديًّا في الغرب رافقه تقدّم متواصل في مستوى التعليم وتطوّر تصاعديّ في الاهتمام بحقوق الإنسان والحريّات الفرديّة. غير أنّ الأزمة الماليّة العالميّة ونتائج العولمة التي خلقت حالة قلق على الاقتصاد المحليّ، وازدياد اللجوء إلى الذكاء الاصطناعيّ، عادت لتولّد خوفًا من فقدان الأمن الاقتصاديّ، وهذا عامل نفسيّ تُحسن أحزاب اليمين المتطرّف والحركات الشعبويّة استغلاله، من خلال رفع شعارات المصالح القوميّة أوّلاً، حتّى ولو اضطرّ الأمر إلى الخروج من الاتّحاد الأوروبيّ. ففي مثل هذه الظروف، يميل الناس تلقائيًّا إلى تفضيل ما يبدو بديلاً عن عدم الاستقرار والغموض. على أنّ الخطر جليّ بألاّ يلغي وصول اليمين المتطرّف أو الشعبويّين إلى السلطة الديموقراطيّةَ، ولكنّهم سيفرغونها من مضمونها، مع محافظتهم على مبدأ الانتخابات.

من دون تعافي الغرب من صدماته النفسيّة الناتجة من الأزمة الماليّة العالميّة ونتائج العولمة واستقبال المهاجرين واللاجئين وآثار الإرهاب، من خلال تقويم للسياسات الاقتصاديّة وفلسفة التعدديّة الثقافيّة، يميل المشهد العالميّ إلى صراع أنظمة تسلّطيّة من جهة، ويمينيّة شعبويّة من جهة ثانية. وبالطبع، لا يمكن أحدًا أن يتوقّع نتائج المواجهة، إذ إنّ الأوضاع الاقتصاديّة داخل عدد من البلدان التسلّطيّة في حالة حرجة جدًّا، تقابلها طروحات اليمين المتطرّف والشعبويّة التي تتّسم بتبسيط الأمور إلى حدّ السخافة.

أستاذ في الجامعة اليسوعيّة