| | Date: May 30, 2018 | Source: جريدة الحياة | | هل هناك جيل رابع أو خامس من الحروب؟ - محمد شومان | شاعت في الخطاب الإعلامي العربي مقولة الجيل الرابع من الحروب، وتحمس البعض لها حتى صارت أداة لتبرير وتفسير كثير مما جرى في الدول العربية، من انتفاضات شعبية وصراعات، علاوة على بعض المشكلات المزمنة التي سبقت زمنياً ظهور هذه المقولة لأول مره عام 1989 على يد الجنرال الأميركي وليم لاند، والذي حاول من خلالها تبرير الفشل الأميركي في مواجهة بعض الجماعات الإرهابية عبر العالم.
وقتها لم يهتم الخبراء الاستراتيجيون العرب على كثرتهم بما كتبه لاند، لكنهم أعادوا اكتشاف مقولة الجيل الرابع من الحروب منذ سنوات قليلة، واشتد حماسهم فتحولت إلى نظرية صالحة لتفسير الربيع العربي، وانهيار الدولة في اليمن وسورية وليبيا، والمؤامرات التي تستهدف أمن واستقرار الدول العربية. لقد صار الخوف من تحديات وآثار حروب الجيل الرابع بمثابة فزاعة تستدعي عند البعض مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي وتضييق المجال العام، حتى نأمن من هذه النوعية الجديدة من الحروب التي يخوضها أطراف غير متماثلين ويعتمدون على قوة وسحر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والأخبار الكاذبة والحرب النفسية، تلك الوسائل– وفق رأيهم- قادرة على غزو العقول والتلاعب بالقلوب والمشاعر، وبالتالي هزيمة الشعوب قبل الجيوش أو هزيمة الدول من دون حرب.
وفي إطار موجة الحماس لمقولة الجيل الرابع من الحروب تحدث بعض الخبراء العرب عنها كنظرية، على الرغم من عدم اختبارها أو الاعتراف بها في الأوساط العلمية والعسكرية، ثم تحمس بعض الخبراء العرب وابتكروا مقولة الجيل الخامس من الحروب، وهو جيل لم يرد ذكره في المراجع الغربية أو الروسية!! وأشار أحد الباحثين العرب إلى الجيل السادس وإرهاصات ظهور جيل سابع من الحروب!! والحقيقة أن تقارير حلف الناتو الحديثة تناقش خصائص الحرب الإلكترونية Cyberwarfare أو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في الحرب الهجين Hybrid Warfare، بينما يتحدث ويتدرب الروس على ما يطلقون عليه حرب المعلومات Information Warfare، ولم يظهر على نطاق واسع سواء داخل أميركا أو خارجها مفهوم أو مقولة الجيل الرابع من الحروب!! والثابت أن هناك اتفاقاً واسعاً في الدراسات الاستراتيجية حول ظهور بيئة أو بعد جديدة للحرب هو الفضاء الإلكترونيCyber Space، وهو مختلف عن الأبعاد أو البيئات التقليدية الأربعة (البر والجو والبحر والفضاء)، ومع ذلك يشترك معها في بعض الخصائص، إلا أنه يعتمد في شكل رئيس على المعلوماتية وثورة الاتصالات والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وهنا أود أن يشاركني القارئ التفكير في ثلاث ملاحظات:-
الأولى: أن هناك من يرى أن تطور الحروب عبر التاريخ هو نتيجة طبيعية لتطور التكنولوجيا وفن الحرب وتنظيم الجيوش والتدريب، ومن ثم لا يوجد مبرر أو سبب منطقي لتقسيم الحروب إلى أجيال أو موجات، فهناك تواصل وامتداد في المفاهيم والعمليات العسكرية، وقد عرفت البشرية حروب المعلومات والحروب النفسية وإطلاق الشائعات منذ ظهور المعارك الأولى بين الجماعات البشرية، كما عرفت أيضاً أشكالاً مختلفة من الحروب النظامية وحروب العصابات، إضافة للحروب النفسية، المعنى أن الحرب الهجين كانت معروفة في أشكال أقل تطوراً مما هو معروف حالياً، والمرجح أن تطور تكنولوجيا الاتصال والإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي قد وسع من فرص ظهور وانتشار حروب المعلومات أو الحرب الهجين والتي تستخدم المعلومات والشائعات للتأثير في الشعوب والجيوش، كما تستهدف تدمير أو التلاعب بالبنية المعلوماتية التي تعتمد عليها الدول في إدارة كل مناحي حياتها بما فيها الإعلام والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والعمليات العسكرية.
الملاحظة الثانية: أصبحت المعلومات أداة وهدفاً ومجالاً لعمليات السيطرة والعمليات النفسية والمخابراتية. وقد غيرت تكنولوجيا المعلومات – كما يقول تقرير لمركز الاتصالات الاستراتيجية التابع للناتو– طبيعة الصراعات من خلال خلق بيئة افتراضية تسمح بإجراء معارك عبر الإنترنت تؤثر على الأحداث في المجال المادي، مثل أنظمة الكمبيوتر، وفي المجال المعرفي الذي يحدد مواقف الأشخاص ومعتقداتهم، لقد شهدنا أخيراً كيف تستخدم كل من الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية مقاربات هجينة لتحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، حيث تجمع ببراعة بين العمليات العسكرية والهجمات السبيرانية والضغوط الديبلوماسية والاقتصادية وحملات الدعاية والإعلام، وخلال العقد الأخير نمت وسائل الإعلام بسرعة لتصبح واحدة من القنوات الرئيسة للاتصال، وأصبحت منصات التواصل الافتراضية جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية الحرب، وأثبتت الصراعات الأخيرة في ليبيا وسورية وأوكرانيا أن وسائل التواصل الاجتماعي تستخدم على نطاق واسع لتنسيق العمليات وجمع المعلومات، والأهم من ذلك، للتأثير على معتقدات ومواقف الجماهير وتعبئتها. ويؤكد هذا الاقتباس على أن حرب المعلومات أو الحرب الهجين لا تعني الاستغناء عن بقية عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية، وبالتالي فإن تركيز الخبراء الاستراتيجيين العرب على القوة الناعمة، خصوصاً قوة الإعلام والدعاية يبدو في غير موضعه، فالإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لا تخلق قوة أو تأثيراً طالما لم تعبر أو تواكب بقية عناصر القوة أو الأبعاد الأخرى للعمليات الحربية في البر والبحر والجو والفضاء.
الملاحظة الثالثة: أن المناقشة النقدية لموضوع الجيل الرابع من الحروب وما يثيره من قضايا تفرضها الحقائق على الأرض، والرفض المنطقي لأي مبالغات في التفكير العربي لأنها تقود إلى كوارث، علاوة إلى اهتمام شخصي يرتبط بتخصصي في الإعلام السياسي والرأي العام، حيث أثبتت أغلب بحوث التأثير الإعلامي منذ نشأة هذا التخصص قبل نحو مئة عام أن الإعلام والدعاية لا تستطيع تغيير الواقع، كما أن قدرتها على التأثير في الجمهور محدودة وتعتمد على مجموعة من المتغيرات كالمستوى التعليمي والعمر والثقافة والدين والأسرة وجماعة الرفاق والأصدقاء... وغيرها من العوامل المعقدة، والتي تجعل عمليات التأثير وقياسه غاية في الصعوبة، لكن يبدو أن تطور تكنولوجيا الاتصال والانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي وشدة تأثيرها في بعض الأحداث، دفع الكثيرين للترويج لفكرة التأثير الهائل للإعلام والدعاية والحروب النفسية، والحقيقية أن نظريات القوة الهائلة للإعلام أو تصوير الرسالة الإعلامية كرصاصة سحرية تستطيع إصابة هدفها، أي الجمهور والتأثير فيه بسهولة قد انتهت من زمن طويل، وظهرت في المقابل مفاهيم الجمهور النشط، والجمهور العنيد أو المقاوم والذي يختار الوسيلة والرسالة ويقلص من آثارها عليه أو يعدلها أو يرفضها، وفي بعض الأحيان ينتج رسائل خاصة به عبر وسائل التواصل الاجتماعي كي يعبر من خلالها عن اهتماماته وتفضيلاته.
لقد ظهرت نظريات التأثير الهائل للإعلام لأول مرة بعد اكتشاف وانتشار الراديو (الإذاعة) ثم اختفت لتستعيد حضورها في شكل نسبي مع انتشار التلفزيون، لكنها تراجعت في الستينات من القرن الماضي، لتعاود الظهور مع البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية، ثم جاء اكتشاف وانتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لتظهر من جديد نظريات التأثير القوي للإعلام والدعاية، والتي ارتبطت في السنوات الأخيرة بحرب المعلومات أو الحرب الهجين، أو ما يعرف في الطبعة العربية بالجيل الرابع من الحروب، من هنا اتجهت بعض الحكومات العربية لضخ استثمارات كبيرة سواء لدعم وسائل الإعلام المؤيدة لها، أو لمنع ورقابة وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار على الإنترنت. ويبدو أن الدور المؤثر لوسائل التواصل الاجتماعي فيما يعرف بانتفاضات الربيع العربي، قد أقنع تلك الحكومات بجدوى وأهمية الإنفاق الواسع على الدعاية والإعلام، من دون إدراك حقيقية أن وسائل التواصل الاجتماعي ما كان لها أن تؤثر لولا ضعف واستبداد أنظمة الحكم وفسادها وافتقارها للشرعية ورغبة الجماهير في تغييرها.
في الأخير، رسالتي إن الجوانب الإعلامية والدعائية والحروب النفسية في إطار الحرب الهجين أو حرب المعلومات مهمة، لكنها ليست بالأهمية الكبيرة التي يجري الترويج لها، وأعتقد أن المبالغة في تأثير الدعاية والإعلام ارتبط تاريخياً بظهور أدوات اتصالية تكنولوجية أكثر تطوراً وانتشاراً، حدث ذلك مع اكتشاف الراديو ثم التلفزيون، ونعيش حالياً آثار وتداعيات الوافد التكنولوجي الجديد (الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي) الذي يرى البعض أنه قادر على تغيير العقول والقلوب، وهو اعتقاد غير صحيح، ولم يثبت نجاحه بعد ظهور الراديو والتلفزيون أو في أثناء الحرب الباردة، لأن أي تغيير في أفكار ومعتقدات وآراء الجمهور يرتبط بعوامل كثيرة. والمؤكد أن امتلاك إعلام ووسائل تواصل اجتماعي قوية ومؤثرة لا يعني امتلاك القوة أو القدرة على حسم أي معركة من دون امتلاك بقية عناصر القوة التقليدية عسكرية واقتصادية وديبلوماسية، ولنأخذ مثلاً تنظيم داعش الذي كان طرفاً أصيلاً عند الحديث عن الحرب الهجين، فقد أحرز نجاحات كبيرة في مجال القوة الناعمة والدعاية والحرب النفسية، لكنه لم يستطع الاستمرار لأنه لم يمتلك بقية عناصر القوة.
* كاتب مصري | |
|