Date: May 29, 2018
Source: جريدة النهار اللبنانية
حراك "حماس" المدني - عبير بشير
من مدينة القدس حيث خلع المرابطون الفلسطينيون البوابات الإسرائيلية الأمنية من أمام المسجد الأقصى بأظافرهم، إلى غزة التي تتمرد بكل ما تملكه من فائض إرادة وقهر، ضد مخططات القرن وتصفية القضية الفلسطينية، حيث ينتفض أهلها منذ مطلع آذار الماضي على بوابات غزة الشائكة للمطالبة بحق العودة إلى أراضيهم ومدنهم التي طردوا منها منذ سبعين عام، ورفضا لصفعة ترامب. 

ومن هناك - القدس-، حيث كانوا يحتفلون، إلى هنا - غزة - حيث كانوا يقتلون، كانت الغلبة لصور مشاهد القتل في غزة، جراء فتح قناصة الاحتلال المتمركزين خلف تلال رملية شرق القطاع نيران أسلحتهم، تجاه المتظاهرين الفلسطينيين في ذكرى يوم النكبة، على أنخاب الاحتفال التي كان فريق ترامب المتصهين يرفعها نشوة بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.

كان لا بد من أن يندلق الدم الفلسطيني غزيراً كالشلال حتى يصحو الضمير العالمي من غفوته، وحتى يدق جدران الخزان العالمي الصامت على "جنون ترامب" وفاشية الاحتلال الإسرائيلي، عبر موافقة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، على إنشاء لجنة تحقيق دولية بأحداث غزة.

وكان لا بد أن يرد الفلسطينيون باللحم الحي، على ما قاله يوما ما نيوت غنغريش اليميني الذي كان قريباً من أن يكون مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأميركية عام ألفين وأثنى عشر، بأن "الفلسطينيين إرهابيون، وهم شعب مُخترَع لا وجود له". وهو ما يعكس الصورة النمطية عن الفلسطينيين لدى دوائر صنع السياسة الأميركية، وخاصة في مؤسستي الرئاسة والكونغرس. دونالد ترامب هو أحدث وأصدق ترجمات معاداة الفلسطينيين في قلب المؤسسة الرسمية الأميركية، وفجاجته المباشرة في التعبير عن مواقفه تكشف ما كان يعتقده كثير من أسلافه، لكن تمنعهم الديبلوماسية والحسابات السياسية من الذهاب بعيدا في موضوع "الشعب المُخترَع" فيقرر نقل السفارة الأميركية، ولا يدين الاستيطان .

إن قيمة ما فعلته غزة في ذكرى يوم النكبة، بكل هذا الثمن الكبير من الشهداء - سبعين - والجرحى. هو أنها انتفضت في وجه إسرائيل التي تحتفل بغطرسة في الذكرى السبعين لإقامتها، وفي الحقيقة فإن إسرائيل احتفلت بنشوة ما تعتبره تصفية القضية الفلسطينية، مسلحة بإدارة أميركية تنفذ برنامجاً إسرائيلياً بامتياز، وهنا تأتي مصادفات التاريخ المدهشة من تلك المنطقة الصغيرة والفقيرة - غزة - لتعاكس كل الرياح السياسية العاتية وتفاجئ الجميع من جديد.

لقد أزالت مسيرة العودة الفلسطينية بنسخها المتصاعدة منذ مطلع آذار الماضي، للمطالبة بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي طردوا منها ورفضا لصفعة القرن، عن الرواية الإسرائيلية، وأظهرت الصراع على حقيقته باعتباره صراعًا بين شعب تحت الاحتلال يناضل من أجل حقوقه المشروعة، وبين احتلال استعماري استيطاني يفتك بالمتظاهرين العزل. وقد كانت مفارقة، أن يظهر رئيس حركة حماس في غزة، يحيى السنوار بجوار السياج الحدودي مع صور مارتن لوثر كينج، والمهاتاما غاندي ونيلسون مانديلا.

 وفيما وفر الحراك الشعبي السلمي، فرصة أكيدة لتنظيم الاشتباك مع الاحتلال، ومخططاته، ولتأكيد أولوية المقاومة الشعبية السلمية، كانت غزة تختزل صورة "الانتصار الفلسطيني"، وتربح معركة "الوعي"، ومعركة "الصورة"، عندما التقطت الشاشات العالمية، صورة عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين تم طردهم من أرضهم، وحشرهم في غزة على هامش الحياة، وفي قفص مضغوط، ليقولوا بأنهم موجودون ولا يمكن شطبهم ولا شطب ملف اللاجئين من أجندة الحل النهائي.

غير أن الحسابات الحزبية الضيقة، أطلت برأسها، عشية التظاهرات الدامية، حيث أخلت حركة حماس والقائمون على المسيرات، المتظاهرين والمعتصمين من المخيمات الحدوية، وشحنت عشرات الآلاف منهم بالحافلات، لمنعهم من اختراق السلك الشائك في اتجاه المستوطنات الإسرائيلية، كما كان مقررا.

وعزا المراقبون ذلك بأن قادة حماس، أخذوا أخيرا على محمل الجد، التهديدات الإسرائيلية التي نقلتها القاهرة بتصفية قادة حركة حماس، وضرب عمق غزة بشكل موجع، إذا استمرت الحركة بتصعيد التظاهرات، وذلك بعدما بدأت إسرائيل بإرسال أول رسائلها العسكرية عبر استهداف بعض المواقع العسكرية لحركة حماس في عصر يوم التظاهرات.

وكشفت مصادر إعلامية مطلعة عن فحوى اللقاء العاجل والطارئ الذي جمع بين رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية ومدير المخابرات المصرية عباس كامل في القاهرة لساعات عدة، حيث نقل الجانب المصري رسالة حاسمة ونهائية من المستوى السياسي والأمني الإسرائيلي، بنية تل أبيب استهداف قادة الصف الأول في الحركة، والضرب في عمق غزة، إذا أصرت حركة حماس على الدفع بأفواج المتظاهرين في يوم النكبة إلى اختراق السياج الفاصل في اتجاه مستوطنات غلاف غزة.

ويرى المراقبون، بأن حركة حماس تلقفت الدعوات التي نادت بالزحف السلمي، قرب الحدود في ذكرى يوم الأرض والنكبة، بعدما أدركت متأخرة بأن الحراك السلمي، أقل تكلفة وخطرا، والأكثر حضورا وتأثيرا من الخيار المسلح الذي تبنته خلال العقد الماضي. وعثرت الحركة أخيرا على الصيغة التي تخدمها في كافة الاتجاهات، فهي ابتكرت وضعا، تقوم به غزة وشعبها بصب جام غضبها على إسرائيل، بعدما كانت تتحسب من أن ينفجر قطاع غزة الذي تديره في وجهها، على وقع الأزمات الاقتصادية والمالية الخانقة، التي يأن تحت وطأتها الغزيون. في الوقت نفسه لا تقوم بتوريط نفسها في حرب جديدة مع إسرائيل تعرف جيدا بأنه لن يكون لها مثيل.

ونقلت مصادر إسرائيلية عن جهات رفيعة في جهاز المخابرات تقديرها أن حركة حماس لا تبحث عن مواجهة عسكرية مع إسرائيل إنما تريد تحقيق هدفين من التظاهرات: الأول، الانخراط برد ميداني رافض لصفقة ترامب، وثانيا إرغام قادة الاحتلال والمجتمع الدولي، عبر التهديد باجتياح الخط الحدودي، على الموافقة على رفع الحصار عن قطاع غزة، وإتاحة حرية التنقل للغزيين، والمساعدة العاجلة بوقف تدهور الأوضاع المعيشية، خصوصاً حيال عزلة الحركة الدولية وإجراءات السلطة الفلسطينية الاقتصادية ضد قطاع غزة.