| | Date: May 5, 2018 | Source: جريدة الحياة | | استعادة فكرة الوطن السوري المشترك قبل الشروع بإعادة بنائه - ناصر الرباط | بدأت أصوات كثيرة من منظمات دولية وهيئات استثمارية ومكاتب هندسية، وطبعاً الحكومة السورية وداعميها الدوليين، بالكلام عن إعادة إعمار المناطق السورية المدمرة، وفي شكل خاص التراث السوري التاريخي الذي تضرر في شكل كبير في السنوات السبع الماضية. هذه الدراسات والاقتراحات، بالإضافة إلى ضعفها الأخلاقي البادي ولاقانونية بعضها حيث إن الحديث يُجرى عن استملاك مناطق الغائبين وإعادة بنائها، تهمل جانباً مهماً من وظيفة إعادة الإعمار، وفي شكل خاص ترميم الأوابد التاريخية والدينية المهمَّة. هذا الجانب هو استعادة التراث السوري المتعدِّد الجذور والمتنوِّعها من دون تمييز أو تفضيل أو إقصاء. فهذا التراث يختزل في أشكاله ومبانيه وقراه ومدنه قرون تفاعل ثقافي متطاول وسم البلاد بميسمه، واستقى من تركيبتها السكَّانية وتقاطعاتها الحضارية وخصائصها البيئية صفاته وأشكاله. وهو نوع من المقاومة للتقوقع والعودة إلى ماض طهوري متخيَّل، ما طغى على صورة سورية اليوم عند كل الأطراف المتحاربة.
فسورية، على رغم ما أصابها في السنوات الأخيرة، ما زالت تقدم في تراثها التاريخي المبني نماذج مهمة للتلاقح الثقافي والفني بين حضارات وثقافات متعدِّدة وأحياناً متباينة. وقد استمرَّ هذا التلاقح الثقافي قروناً، وتكثَّف كمؤثِّر فعَّال في الحضارة الإسلامية، التي وصلت إلى البلاد في منتصف القرن السابع، وترعرعت في قلب المنطقة التي أصبحت عربية، في شكل خاصٍّ في بلاد الشام والعراق ومصر، ليصير ركيزة أساسية من ركائز فهم تاريخ المنطقة ككلٍّ، ومكوِّناً مهمّاً من مكوِّنات هويَّاتها العرقية والدينية، وإنتاجها الثقافي والفنِّي والمعماري حتَّى الوقت الحاضر. هذه القراءة لتاريخ سورية البلد والوطن والأرض مختلفة عمَّا اعتدناه في مناهج الدراسة وشعارات الحزب الحاكم الصلفة والعمياء، ومؤخَّراً هلوسات السلفيين الإسلاميين الطهوريين، الذين لا يرون من التاريخ سوى لحظات متخيَّلة، تلغي ما قبلها وتمسح عمَّا بعدها كلَّ تطوُّر أو تغيير. وهو كذلك تاريخ يستحثُّ المواطن والمواطنة الخارجين من الحرب المنهكة على إعادة النظر بمفهومهما التقليدي لعلاقات الثقافات المتوطنة في بلادهم الذي خلف فجوات معرفية وأيديولوجية واسعة، ساهمت مساهمة كبيرة في طغيان التفاضل على التكامل في علاقات المجموعات التي تشاركت في التاريخ والجغرافيا السوريين.
وقد احتوت أرض سورية على مؤشرات عدة على هذا التلاقح المتطاول الذي ما زال يضيء في أرجاء البلاد على شكل آثار رائعة، بقيت حتَّى بداية الثورة السورية في حالة جيِّدة، بل ممتازة في عدد من المواقع. هذه الآثار تقدِّم نماذج قائمة ومرئية ومتمادية في العراقة للجذور الحضارية من آشورية وآرامية وهلينستية ورومانية وبيزنطية وأموية وسلجوقية وأيوبية ومملوكية وعثمانية وصولاً إلى الفترتين الحديثة والمعاصرة. والأهمُّ من هذا، في هذه الفترة المؤلمة والعنيفة من تاريخ سورية المعاصر، أنَّ هذه العمارة بتنوُّعها وتواضعها وجمالها وعمرها المديد، تُذكِّرنا بالتعدُّد الثقافي في سورية وبالتعايش الذي كان قائماً فيها بين الديانات والطوائف المتعددة المتجذِّرة في أرضها منذ مئات السنين، بغضِّ النظر عن بعض التجاوزات، بحيث إنَّ تراث هذه الثقافات المختلفة راسخ في ذاكرتها وحيٌّ في وجدانها وفي حياة مواطنيها اليومية والمعاشة حتَّى اليوم، على رغم الطائفية المقنَّعة لنظام الحكم القائم، والصعود المشكوك في أمره لأصولية استئصالية طارئة، تجابهه في حرب طال أمدها، وتطاول شرُّها على البشر والحجر.
لذلك، لا بدَّ لنا عندما تضع الحرب أوزارها من استعادة تقليد التعايش والاحترام المتبادل وتمكينه من التعبير عن نفسه، من خلال المحافظة على المباني الدينية والثقافية للحضارات والديانات التي تتابعت على أرض سورية كافة، ومن خلال إعادة تفعيل العادات الجميلة التي حافظت على إقامة الشعائر الدينية الأصيلة للطوائف المختلفة، المكوِّنة للفسيفساء السوري في أبنيتها التاريخية نفسها، كرمز للتواصل مع التراث الحيِّ ودليل على التعايش الذي كان قائماً، وإن بهِنَات وهفوات.
هذا التواصل أصبح اليوم هدفاً يُرتجى، كواحدة من أنجع الوسائل في مقاومة التعصُّب والتطرُّف ونبذ الآخر، وفي إعادة بناء وطن حقيقي لكلِّ السوريين. فقد أنهك الانقسامُ والتقاتل الأرضَ والناس وفكرة الوطن المشترك نفسها بالإضافة إلى تدميره الكثير من آثارها أو إهمالها، ما قد تسبَّب في نسيان دروسها، وأجَّج في النفوس مشاعر سوداء لا بدَّ لنا من مقاومتها وإعادة تأهيلها، مستخدمين في ذلك تراثنا المركَّب والمتعدِّد والمتعايش ضمن جملة أساليب وأدوات أخرى.
على هذا، علينا أن نقارع التوجّه اللامبالي الذي بدأ يطل برأسه من خلال الاقتراحات المتعددة لإعادة الإعمار في سورية قبل أن تضع الحرب أوزارها، قبل الشروع بأيّ مشروع عمراني على الأرض. فالعصر في سورية عصر الضياع الفكري والثقافي الذي طاول شرائح كبيرة من السوريين قبل الثورة، والذي تفاقمت حدّته جرّاء صراع الأيديولوجيات العبثي والعدمي في سنوات الاقتتال الأخيرة. تجب علينا العودة إلى جلاء انفتاح التاريخ السوري المختلف عمَّا يطرح اليوم من قراءة مغايرة، تطمس بعضاً من فتراته بتعصّب أو شوفينية أو عقائدية أو قصر نظر، ساهم فيها الكثير من سياسيينا وقادتنا الدينيين ومثقَّفينا. فهذا التاريخ هو المعوَّل عليه في إنتاج خطاب مغاير للخطاب الاحترابي والإقصائي الذي تعاني سورية، والعالم العربي عموماً، منه في الفترة الحالية.
استيعاب هذه الدروس وتطويعها في سبيل خلق توازن بين فكرة الوطن المشترك وحاجات إعادة الإعمار هو التحدّي الكبير الذي يجب على مخطّطي مستقبل التراث والعمران السوريين مواجهته. فالتخطيط للمستقبل بلسم للفكر في هذا العصر السوري المظلم، وعلامة أمل وترقب لما يمكن أن تصبح سورية عليه بعد أن يضع المتحاربون سلاحهم ويحصل البلد، ربما، على ما اندلعت الثورة الأصلية النبيلة لأجله. والتخطيط كذلك خطوة نحو ترشيد التفكير في الحلول التي لا بد وأن تطرح مع انتهاء الاقتتال بدلاً من الانتظار حتى لحظة الفعل عندما لا يكون هناك مجال لتروٍّ أو لنقاش في خضم التنفيذ.
* كاتب سوري، أستاذ في «أم آي تي» بالولايات المتّحدة | |
|