| | Date: Apr 22, 2018 | Source: جريدة الحياة | | عن المآل الخائب لمجتمعاتنا العربية - كرم الحلو | ثمة من يرجع الاقتتال الأهلي الذي مزّق بعض الآقطار العربية، وهددها إثر ما سمي بـ «الربيع العربي»، بالانقسام والتفتت عصائب إثنية وطائفية ومذهبية، إلى الموروث الثقافي الذي يعادي الديموقراطية أو لا يعطيها أهمية مركزية في منظومة القيم والمعايير السائدة في مجتمعاتنا، ما يؤول إلى رفض الآخر، ويبرر التعامل معه بالعنف والإقصاء، مفصحاً عن سمة جوهرية في شخصيتنا الإجتماعية والنفسية تتمثل في إرادة السيطرة على المختلف واستحالة التعايش معه.
الملاحظ في هذه التوصيفات التعميمية، سواء الاستشراقية أو العربية، طابعها الإطلاقي وإلصاقها سمات محددة بالثقافة والمجتمعات العربية، وقد طرحت في الفكر الغربي من منظور عنصري، وبخاصة مع إرنست رينان، وترددت في فكرنا العربي في أشكال شتى مع حسن حنفي وسعد الدين ابراهيم وخلدون حسن النقيب وسواهم.
إلا أنه بالعودة إلى حضارتنا العربية الإسلامية أو إلى تاريخنا الاجتماعي الحديث والمعاصر يتبين خطأ هذه الأحكام والتعميمات ومجافاتها للحقيقة. ففي رأي جرجي زيدان أن الإسلام تعامل بالاحترام والحسنى مع غير المسلمين، وكان الخلفاء في صدر الدولة العباسية يكرمون الأساقفة ويجالسونهم، ويحاورونهم في الدين، حتى أصبح النصارى يهدون الخلفاء إيقونات بعض القديسين فيقبلونها منهم. وبصورة عامة إن المسلمين في إبان تمدنهم أطلقوا حرية الدين لرعاياهم، فلم يسمع أنهم أكرهوا طائفة من الطوائف على الإسلام.
وفي العصر الحديث عاش المسلمون الذين يشكلون غالبية المجتمعات العربية، مع الطوائف الأخرى (إلا في أزمنة الإنحطاط) في مودة وسلام. نجد تعبيراً عن هذا الواقع في فكرنا الحديث والمعاصر، ففرنسيس المراش يقول شعراً في مجتمع حلب وتآخي فئاته وطوائفه في القرن التاسع عشر: «رعياً بكم يا ساكني حلب فما زلت بكم ولا خنتم قسم... والجار ملتزم بإخلاص الوفا للجار في البلوى فبينهما ذمم».
أما المؤرخ قسطنطين زريق فيقول في دمشق مطلع القرن العشرين: «كانت بيوت أسرتنا وأقاربنا وطائفتنا متصلة بالأحياء المسيحية من جهة، وبالأحياء الإسلامية من جهة أخرى. وكان الجو السمح الذي يحيط بحياة طائفتنا خالياً من التعصب الذميم والتقوقع الخانق، لقد كان جواً منفتحاً على الأديان والطوائف الأخرى». ويقول زريق في مجتمع بيروت في الآونة نفسها: «كان مجتمع رأس بيروت مجتمعاً منسجماً، نواته فريق من العائلات المسيحية والإسلامية. وكان الإخاء سائداً بين هذه المجموعة من العائلات، يتجاورون ويتزاورون، يتعاملون فيما بينهم تعامل ثقة وأمانة، وترضع زوجاتهم أطفال العائلات المجاورة دون تمييزفي الدين أو المقام الاجتماعي».
وفي «الجذور» (دار الفارابي، 2018) يقول مهدي السعيد في مجتمع بغداد اواسط القرن الماضي: «كانت الأصول الاجتماعية تتجاور في المحلات البغدادية، ولم تكن الثقافة الشعبية العراقية في ذلك الحين تفرق بين الانتماءات الدينية، فالكثير من المسلمين تزوجوا بمسيحيات أو يهوديات، وتزوج عادل مصري اليهودي بالمسلمة «أم سرود» وهكذا دواليك».
ويقول مهدي السعيد في محلة الدوريين في بغداد: «كانت أكثرية أهالي الدوريين من الشيعة والأكراد والمسيحيين والصابئة، وأكثرية المناطق المجاورة من السنة يشاركون الشيعة في «القراءات الحسينية». وكانوا فوق هذا وذاك يقومون بالتجوال حول المحال لجمع التبرعات وفي النهاية يعملون على إقامة المجالس الدينية في الشوارع العامة. ويضيف السعيد: «أنا شخصياً لم ألحظ طوال حياتي أية فروق بين الأهالي، أما ما ظهر في ما بعد فإنما يدل على أنه بضاعة أجنبية الصنع».
عاملان أساسيان في رأينا وقفا وراء انقلاب مجتمعاتنا العربية من تلك الحال من الوئام والتآخي إلى الأحقاد والتباغض والنزاع الأهلي. أولهما من دون ريب الظلم والإستبداد، فقد أدمنت عليهما دولنا التسلطية التي رفعت إيديولوجياتها فوق الأمة، وأجهزت على المجتمعات المدنية، وزرعت مخبريها في كل مكان للقبض على أفكار الناس والتجسس على أحلامهم. إن الظلم وفق إبن خلدون مؤذن بالخراب، مقوّض لأركان الدول، مقيّد للأيدي عن العمل، والإستبداد كما يصفه عبد الرحمن الكواكبي في طبائعه يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، ليجعل الإنسان حاقداً على قومه، فاقداً حب وطنه، ضعيف الحب لعائلته، مختل الثقة في صداقة أحبابه.
أما العامل الآخر فيتمثل في زج الدين في الصراعات السياسية والاجتماعية واستخدامه لأغراض خصوصية، الأمر الذي فاقم العداوة بين أبناء المجتمع الواحد وبرر تكفير الآخر ونبذه وصولاً إلى نفيه واستئصاله معنوياً ومادياً.
إن عودة مجتمعاتنا إلى ما كانت عليه من سلام ووئام وتآخ لا يمكن أن يستقيم من دون الفصل بين الدين والسياسة ومن دون تحول دولنا من دول استبدادية تسلطية إلى دول عقد اجتماعي تستلهم فكر الحداثة وقيمها في الحرية والمساواة والعدل الاجتماعي. أما إرجاع الانحطاط الذي أصاب مجتمعاتنا إلى سمات اتنولوجية ملازمة بالمعنى الاستشراقي أو إلى انقسامها طوائف ومذاهب وإثنيات، فليس إلا تعامٍ عن الواقع وإيجاد ذرائع واهية لإدامة التسلط والاستبداد. | |
|