Date: Apr 3, 2018
Source: جريدة الحياة
دور الإعلام العربي في المشكلات والأزمات - مصطفى الفقي
فطنت النظم السياسية في القرنين الأخيرين إلى أهمية الإعلام في تسويق شعبيتها وطرح سياستها والتشهير بخصومها، وجاء ذلك في وقت تنامى فيه دور الإعلام في شكل ملحوظ وأصبح أحد القوى الضاربة للعقائد والأيديولوجيات والأفكار والسياسات، ولقد عرفنا في المنطقة العربية تأثير الإعلام مع مطلع القرن العشرين واستخدام الصحافة للترويج لسياسة الاحتلال والدفاع عن الغرب، ثم ظهر «المذياع» الذي اقترن بعصر عبدالناصر والمد القومي الذي صاحب فترة زعامته، ثم جاء «التلفاز» ليكون بحق مقدمة لثورة هائلة تربط بين الخبر والصورة، وتصل إلى كل بيت حتى لو كان صاحبه متعلماً أو أمياً، ولقد لاحظنا اقتران دراسات الرأي العام بنفوذ القوى المسيطرة عليه والمستفيدة منه، ولعل أحداث الحربين العالميتين وما نجم عنهما من تنامي الظاهرة الإسرائيلية خير شاهد على ما نقول، كما أن جماعة الإخوان المسلمين قد برعت هي الأخرى في استخدام الأداة الإعلامية للترويج لأفكارها والدعاية ضد خصومها، ويمكن هنا أن نطرح الملاحظات الآتية:

أولاً: مر الإعلام العالمي والإقليمي بثلاث مراحل وهي مرحلة الطفولة الإعلامية ثم مرحلة المراهقة الــسياسية ثم مرحلة نضوج حقوق الإنسان، وذلك أن من يريد أن يعرف تاريخ البشرية في القرنين الماضــيين، وربما أكثر قليلاً، يجد أن الإعلام هو جزء من صـــناعة القرار، وأن الإعلامي لا تستغنى عنه المؤســـسة الـــســياسية ولا حتى العسكرية، فضلاً عن الاقتــصاديـــة والثـــقافية، لذلك فإن الإعلام هو وجه آخر من العــملة للعملين الديبـــلوماسي والعسكري، ولا يتصور أحد أن الإعلام عامل إضافي أو مساحة ترفية بل هو كيان فاعل في صناعة القرار وتشكيل المستقبل، ولو تابعنا دور الصحافة تاريخياً لوجدنا أنها شريك أساس في معظم القرارات المصيرية للأمم والشعوب.

ثانياً: إن هناك فارقاً دقيقاً بين مخرجات الإعلام وبين ظاهرة الرأي العام، وبقدر ما تضيق الفجوة بينهما بقدر ما تترسخ مصداقية الإعلام، بحيث يكون انعكاساً أميناً للرأي العام، وهناك دول كثيرة عانت عبر مراحل تطورها من تعثر في العملية الديموقراطية ولكنها تمتعت دائماً برأي عام قوي ومؤثر وفعال، ولعل الدولة المصرية الحديثة نموذج لذلك، ففي ظل غياب الديموقراطية أحياناً شهدنا صعوداً قوياً لظاهرة الرأي العام المتمثل في التيار الكاسح لآراء الناس وأحاديثهم المعلنة أو المكتومة، فالإعلام الأمين إذاً يجب أن يكون تعبيراً عن ذلك التيار القوي للرأي العام حتى ولو كان صامتاً، وكأنما هو تعبير عن (الكلام الساكت) على رأي أشقائنا السودانيين.

ثالثاً: لقد لاحظنا في العقود الأخيرة محاولات ساذجة تسعى إلى تحميل الإعلام كل الخطايا وكافة التجاوزات، بدعوى أنه هو الذي يحرض الرأي العام ويصنع التركيبة الشاملة لذلك في أوقات معينة، وظهرت نغمة قوية حتى في الإعلام نفسه تكرس عملية جلد الذات، وتعتبر الإعلام هو المسؤول عن تدهور العلاقات بين الدول وخلق الحساسيات بين الشعوب، وذلك قد يكون أمراً صحيحاً جزئياً ولكن لا دخان من غير نار، فالإعلام انعكاس للواقع السياسي ولا يمكن أن تقدم على المائدة طعاماً شهياً إذا كان المطبخ مرتبكاً تنقصه الكفاءة ويعوزه حسن الصناعة. من هنا فإن الإعلام لا يصنع شيئاً من العدم ولكنه ينفخ في النار إذا أراد، والمشكلة حينئذ هي وجود النيران التي صنعت سحب الدخان وأدت إلى ما يحدث، فالإعلام في النهاية هو انعكاس لما يدور حوله ولكن قد توجد بعض العناصر التي يحكمها الهوى فتفسر الأحداث على طريقتها وتمضي وراء الأمور بأسلوبها، ولا تتوقف عن وضع السم في العسل، ونكون هنا أمام إعلام لا يحكمه ضمير ولا يقوده منطق ولكنه يبحث فقط عن الإثارة وتحريك الرأي العام في اتجاهات يريدها لغرض لديه.

رابعاً: يجب ألا نغفل جانب الإعلام الموجّه، خصوصاً في النظم الشمولية أو تلك التي تفتقد الديموقراطية الصحيحة، ففي تلك النظم نفاجأ بإعلام على نغمة واحدة تبدو كل سطوره متماثلة ولا يخرج سياقه عن خط عام يرتبه النظام. ويحتوي مثل هذا الإعلام الموجّه على درجة عالية من الحظر وتكميم الأفواه وتراجع الحريات، وهنا لابد أن نقول إن الإعلام الحر مهما كانت خطاياه هو أفضل عشرات المرات من ذلك الإعلام الموجّه الذي يبدو وكأنه معزوفة واحدة تمجد الحاكم وتشيد بالمزايا وتبرر الأخطاء، ولقد عانى الإعلام العربي كثيراً من ذلك وعرف موجات من السيطرة الكاملة للدولة على أجهزته المقروءة والمسموعة والمرئية، حتى وصل الحد إلى تأميم الصحف وتحويلها إلى أبواق للحكام.

خامساً: ما أكثر ما رأينا من صراعات سياسية لعب فيها الإعلام دوراً أساسياً، ولعلنا نتذكر «الحقبة الناصرية» عندما اختلف الرئيس الراحل عبدالناصر مع غيره من حكام العرب وبدأت أبواق الإعلام تمارس دوراً مؤثراً في ذلك الصراع، حيث لعبت إذاعة «صوت العرب» وباقي أجهزة الإعلام المصرية دوراً كبيراً في توسيع الهوة وسكب الزيت على النار، وأنا أظن أن ذلك الصراع كان إعلامياً أكثر منه سياسياً، ولذلك فإن كثيراً من الصراعات تبدأ وتنتهي إعلامياً، فالإعلام قد يسبق الموقف السياسي بخطوات ويؤدي به إلى الانزلاق في خلافات أشد وصراعات أقوى، فالإعلام أداة معاصرة للحروب الباردة ولا يمكن تجاهل دورها أو إنكار فعالياتها في هذا السياق.

سادساً: لعلنا ما زلنا نتذكر على الجانب الآخر حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وقيامه بعملية غسيل مخ واسعة لملايين العرب في اتجاه يبدو ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، ولقد كان صدام معتمداً في ذلك على أجهزة إعلامه القوية، وما زلنا نذكر أيضاً حتى اليوم طرافة المؤتمرات الصحافية لوزير إعلامه محمد سعيد الصحاف الذي ذكر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أنه كان يترك اجتماعاته ليشاهد مؤتمرات الصحاف وأسلوبه المتفرد في الدعاية والإعلان، ولماذا نذهب بعيداً؟! إن جوبلز وزير الدعاية في العصر النازي كان هو ذلك الذي قاد عملية زرع الأفكار الجديدة لألمانيا النازية، وهو أيضاً القائل (كلما سمعت كلمة ثقافة فإنني أتحسس مسدسي) وذلك يوضح العداء بين الإعلام الموجّه والثقافة الوطنية، وما أكثر النماذج لمن كانوا رواداً لحملات إعلامية نجحوا فيها نجاحات باهرة، ولكن يبقى في النهاية عنصر الشرف والاحترام حتى ولو لم يكن للإعلام ميثاق مكتوب.

سابعاً: دعنا الآن نتحدث مرة أخرى عن دور الإعلام، فالإعلام حالياً يمثل نقلة نوعية في حركة الأفكار والمعلومات والأخبار، وذلك بما يتمشى مع فكر العولمة الذي يرى أن الكون قرية صغيرة ويدعو لاحترام حقوق الإنسان ومبادئ العدالة القانونية وصيانة الحريات العامة، فالبشرية مدينة حالياً للثورة الإعلامية المعاصرة في نشر المبادئ النبيلة والتبشير بالقيم السامية، ولم يعد هناك مجال لوجود مبرر للخلافات بين الأمم والشعوب لأسباب تتعلق بغياب المعلومات أو نقص الأخبار.

ثامناً: إن التقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات قد جعل مسألة الإعلام ذات بعد آخر، فهي لم تعد بذلك البطء والرتابة التي كانت عليها، فتكنولوجيا المعلومات قد جعلت البعيد قريباً والمجهول معلوماً وفتحت آفاقاً بغير حدود للمعارف المتبادلة والتعايش المشترك، ولم يعد هناك على الإطلاق ذلك الضباب الذي كان يغلف المسافات الواسعة بين الدول المختلفة، بل أصبحنا أمام كتلة بشرية واحدة يصعب فيها إخفاء خبر أو تجاهل حقيقة، كما أن التفاعل بين الأمم والشعوب قد أصبح –بفضل الإعلام المعاصر– ظاهرة كونية لا يمكن إنكارها.

تاسعاً: إن الماكينة الإعلامية أصبحت أداة حادة في التأثير على الأطراف المختلفة، كما أصبحت أحد الأسلحة الفعالة في كسب المواقف وتغيير السياسات، والإعلام العربي تحديداً لعب أدواراً مختلفة وما زال حتى اليوم يمارس ذلك الدور الذي يبدو أحياناً في غير المصلحة العربية، ولكنه يبدو في معظم الأحيان أيضاً إضافة للوجود القومي وقوة للعمل العربي المشترك، ولا شك أن المؤثرات العالمية -بما لها وما عليها- قد طبعت هي الأخرى الإعلام العربي بما توصلت إليه وما برعت فيه، إذ أن أدوات الاتصال قد تعددت وتشابكت وأصبح من المستحيل تغييب الصورة أو إخفاء المعلومة، فإننا نظن بحق أن سقوط الحواجز وانهيار الأسوار التي كانت تفصل بين الأمم والشعوب قد أصبحت كلها في ذمة التاريخ، وأصبح ما يجري في الصين تعرفه أوروبا في الوقت نفسه، وما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية يعلمه الآسيويون والأفارقة في الحال. إننا أمام تغير هائل ينعكس على تلك القوة التي تبدو لنا جميعاً واحدة من آيات العصر فقد كانوا يقولون: (إن آية الزمان الصحافة)، وها نحن نقول: (إن ظاهرة العصر هي الإعلام بكل أدواته وفروعه وتقنياته).

عاشراً: يسترجع كل منا واحدة من الأزمات العربية أو المشكلات القومية المزمنة وفي مقدمها القضية الفلسطينية التي تجسد الصراع العربي- الإسرائيلي في العقود الثماني الأخيرة، وسوف ندرك بوضوح أن الإعلام أداة لا يمكن الاستغناء عنها أو الإقلال من شأنها، لذلك استوزرت الدول بعض المسؤولين الإعلاميين فاقتربوا من مراكز صنع القرار وأصبحوا شركاء في كل ما يتصل باتخاذه، بل لقد برع بعض المحترفين في الساحة الإعلامية العربية في صنع صورة معينة عن حكام ربما لم يكونوا أهلاً لها، كما قاموا أيضاً بتشويه البعض الآخر بدوافع مختلفة تؤكد في النهاية أن الإعلام صناعة سياسية لا تخلو من دهاء ولا تبرأ من تزييف.

إن الإعلام العربي كان ولا يزال مركز اهتمام لكل من يريد أن يفهم الواقع العربي أو يدرك أبعاده، وسوف نظل نردد دائماً أن الإعلام يصنع الأحداث أو يشارك في إخراجها ولكنه ليس دائماً المسؤول عنها، إنها معادلة صعبة تحتاج إلى الرؤية البعيدة والحكمة الدائمة والحنكة المطلوبة.
 

* كاتب مصري.