| | Date: Mar 31, 2018 | Source: جريدة الحياة | | لوموند: لماذا ازدرت أميركا المعارضة السورية وتجاهلت معلومات استخباراتها عن «داعش» ؟ | غداة 5 سنوات على خروج أول تظاهرة معارضة للأسد في أسواق دمشق، في 15 آذار (مارس) 2011، تحكم الطوق على الثورة السورية قوات النظام، من جهة، و «جهاديو» جبهة «النصرة» وتنظيم «داعش» من جهة أخرى. وهذان التنظيمان لم يكونا موجودين لدى انطلاق الثورة، وأنجزا اختراقاً صاعقاً على حساب مقاتلي «الجيش السوري الحر»، طليعة الانتفاضة. ويرتفع لواء «الجهاديين» الأسود على معظم الشمال السوري وأراضيه التي خرجت عن سيطرة النظام في شتاء 2012-2013، وحلم المعارضون بتحويلها مختبراً لسورية جديدة. والأسباب الراجحة للسطو «الجهادي» على الثورة السورية معروفة، وهي عنف النظام السوري غير المقيد ونشره الفوضى المواتية للمتطرفين، وسياسات ممولي الجماعات المسلحة والتباسها ومساهمتها في تطييف الانتفاضة، وتشتت المعارضة وارتكابها الخطأ تلو الآخر.
وينبغي إضافة سبب رابع إلى الأسباب الثلاثة هو ازدراء الولايات المتحدة المعارضين السوريين، وتجاهلها إنداراتهم المتكررة في شأن الحركات المتطرفة. وتدل التحقيقات الميدانية التي قمنا بها طوال أسابيع في تركيا، وفي صفوف معارضي بشار الأسد، أن أجهزة الاستخبارات الأميركية تعقبت، منذ منتصف أيار (مايو) 2013، تعاظم قوة «داعش»، خطوة خطوة، وذلك من طريق معلومات جمعها أنصار المعارضة ونقلوها إلى الأميركيين. وتفيد التحقيقات، كذلك، بأن واشنطن لم تستعمل هذه المعلومات إلا قليلاً وبالقطارة، حتى بعد مباشرتها قصف «داعش» في سورية، في أيلول (سبتمبر) 2014، على خلاف توقع المنظمات الوطنية والإسلامية المعتدلة، وأملها بالاستفادة من القصف.
وهذا الاستنتاج يستند إلى اعترافات أدلى بها إلى صحيفة «لوموند» رجل الاستخبارات والرصد الأول في «الجيش السوري الحر»، ولنسمّه «م». فطوال سنتين، أبلغ «م» وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) تقارير دقيقة غذتها شبكة مخبري «الحر» ومعلوماتهم الميدانية المفصلة. وضمّن الرجل تقاريره معطيات وخرائط وصوراً فوتوغرافية وإحداثيات أجهزة التعقب (GPS) وأرقام هواتف. «منذ أن كان «داعش» يضم 20 عنصراً إلى أن صار يعد 20 ألفاً، أبلغنا الأميركيين بكل التفاصيل والمراحل. وحين سألناهم عما يصنعونه بهذه المعلومات، أجابونا مواربة وقالوا إنها بين أيدي أصحاب القرار»، يقول مصدرنا.
وبعض هذه الوثائق رأيناه بأم العين، خصوصاً وثائق تعيّن مواضع مكاتب المقاتلين وحواجز تفتيشهم في الرقة، مقرهم العام في سورية. واطلعنا على خطة سرية صاغها، صيف 2014، جهاز استخبارات «الحر» مع الأميركيين، ورمت إلى طرد تنظيم «داعش» من محافظة حلب. وأرجأ الأميركيون الخطة مرة بعد مرة، وفي أواخر 2014 صرف النظر عنها وألغاها عملياً هجوم شنته «النصرة» على فرقة «الجيش السوري الحر» التي كان يفترض أن تنفذها. وإذا جمعت هذه العناصر، وهذا ما صنعناه، تحقق أن فرصة هائلة لصد تقدم «داعش» فوتت، ولو لم تفوَّت لكان المجتمع الدولي اليوم في حال أفضل من حاله بما لا يقاس في وجه تنظيم «داعش». يقول تشارلز ليستير، الخبير في الحركات الجهادية السورية وأحد محاوري معارضين سوريين، إن الأميركيين قللوا شأن المعلومات الأمنية والاستخبارية التي مدتهم بها استخبارات المعارضين.
ويقر ديبلوماسيون غربيون بأن فرصتين مواتيتين فوتهما التحالف: الهجوم الكيماوي الذي شنه بشار الأسد على ضاحية دمشق في 21 آب (أغسطس) 2013، ولم يلقَ الرد المناسب، وتقوية «الجيش السوري الحر» وإعداده الإعداد الكفيل بمحاربة «داعش» وهزيمته. ويلاحظ «م» أن التجسس على التنظيم محفوف بالأخطار، وكان الاغتيال جزاء عدد من الناشطين الذين انخرطوا في رصد مقاتليه وجمع المعلومات عنهم. وخطا الرصد خطواته الأولى في كانون الثاني (يناير) 2013 مع إنشاء المجلس العسكري الأعلى، وإيلائه مكانة بارزة للاستخبار. وفي نيسان (أبريل) أوكل تنسيق الأعمال الاستخبارية إلى «م».
وشارك أولاً في مهمة بعثة الأمم المتحدة التي أشرفت على التحقيق في استعمال السلاح الكيماوي في سورية، قبل المشاركة في مفاوضات إطلاق رهائن ومخطوفين أجانب تحتجزهم جماعات «جهادية». وسرعان ما انصبَّ انتباهه على «داعش التي راقب حركاتها وسكناتها في مدينة سراقب بمحافظة إدلب. «كان مسؤولها المحلي يدعى أبو براء الجزائري، وهو بلجيكي من أصل جزائري، وتعمد أبو براء الظهور بمظهر الأبله، وتعاطى حشيشة الكيف، وتحدث عن إنشاء «خلافة» تتمدد وتنتشر كالسرطان، وظن الناس أنه يخرف. واستوقفني مساره. فهو قاتل في العراق وأفغانستان، ويتقن الروسية والفرنسية والإنكليزية، ودرس الهندسة من قبل، أي أنه لم يكن هاوياً. وحين أقامت جماعته محكمة وشرعت في محاكماتهم، ثبت أن بلاهات أبو براء لم تكن عبثاً ولا هراءً، كما يقول «م».
فقرر، بعد موافقة رؤسائه، جمع المعلومات عن هؤلاء المتطفلين وتنسيقها في ملفات. وكان معظم مقاتلي التنظـيم أجانب من غير السوريين، ويتعجلون فـــرض أحكــامهم على ولاياتهم، على خلاف خصومهم من «النصرة» المنخرطين في الانتفاضة والمنصرفين إلى قلب النظام. ووفد المقاتلون بالمئات شهرياً إلى الحدود التركية- السورية، واجتيازها يومذاك كان في غاية اليسر والسهولة. «جاء هؤلاء الأجانب ليسرقوا بلادنا وحقوقنا وأرضنا»، يقول «م» غاضباً ويرى في هؤلاء، خطراً مميتاً يهدد الثورة. وحين التقى «م» في تركيا، روبرت فورد، السفير الأميركي مندوب الولايات المتحدة إلى التنسيق مع الثوار، قال له:» إذا لم توقفوا تدفق الإرهابيين فحتى السوريات سوف يعفين عن اللحى في غضون 3 أشهر».
أُرسِل «م» بعدها إلى الخارج في دورة تدريب. وحين عاد، وظف 30 مخبراً يثق فيهم، ونشرهم في المدن التي استولى عليها تنظيم «داعش»: جرابلس والباب وتل أبيض ومنبج والرقة. وطلب 30 ألف دولار تمويلاً شهرياً لشبكته، فلم يحصل إلا على 10 آلاف. وضرب له ضباط الاتصال الأميركيون مواعيد لقاء في قصور تركيا الوسطى السياحية، بأضنة وغازي عنتاب وأنقرة. وكان أحد أبرز عملائه جاسوساً سرياً («خلداً») يعمل في مكتب تنظيم للشؤون المالية بمنبج، غير بعيد من الحدود التركية. وأحد تقارير هذا المخبر يبلِّغ عن تسديدِ برلماني سوري يدعى رضوان حبيب، وهو بعثي، إلى أخيه علي حبيب، أمير التنظيم في مسكنة، المدينة الصغيرة على الفرات، حساباً شهرياً. وأحصى المخبر، بين تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، ونيسان 2014، تحويلات قيمتها 14 مليون ليرة سورية (حوالى 67 ألف يورو). ويوضح «م» أن التحويلات الأولى كانت بمثابة دعم يقدمه رضوان حبيب إلى أخيه حين كان الأخير واحداً من المنشقين الكثر عن النظام، ويقاتل شيخاً بدوياً يناوئه. لكن التحويلات لم تنقطع حين أعلن علي ولاءه لـ «داعش».
ولا يقتصر مخبرو «الحر» على الاستماع وراء الأبواب، فهم يعاينون بعض الوقائع من قرب يعرضهم للخطر. وأرانا «م» صورة فوتوغرافية لمخيم تدريب «جهاديين» في شمال محافظة اللاذقية صورت بعدسة تقريب. ونقل «م» الصورة مع إحداثيات المعسكر من غير رد. وحصل مخبروه على أرقام هواتف يستعملها مسؤولو «داعش»، وعلى أرقام سواتل متسلسلة وعناوين IP (رقم الكمبيوتر أو بصمته لدى الاتصال بالشبكة الإلكترونية)، من غير عائد أو جواب.
وعند منعطف 2013-2014، راقبت الولايات المتحدة من بعد، قبل انخراطها في قتال «داعش»، بعد ظهور جماعات مسلحة تتكاثر كالفطر. وحاولت جاهدة تمييز تلك التي تهدد مصالحها من تلك التي يسعها التعاون معها. ويذكر روبرت فورد بأن فريق أوباما كان على الدوام متحفظاً عن توسل القوة العسكرية في سورية، وعن تسليح المتمردين. ومصدر قلق الفريق مزدوج: فهو خشي استعمال السلاح في قتال النظام (وعلى رغم إغلاق الولايات المتحدة سفارتها في دمشق لم تكفّ عن اعتبار نظام الأسد مرجع الدولة المعترف بها)، بمقدار ما خشي وقوع هذا السلاح بين أيدي «النصرة». فكان استيلاء هذه الجبهة على مكاتب «الحر» ومخازنه في كانون الأول (ديسمبر) 2013 بأطمة، القريبة من الحدود التركية، معلماً سياسياً وعملياً قضى على المجلس العسكري الأعلى، وأخرجه من دائرة التمويل والتموين. وتولى إمام مسجد من ستوكهولم، الشيخ هيثم، الإخواني، إرسال السلاح على سفن مستأجرة من ليبيا.
خلص الفريق الأميركي الميداني إلى أن الفوضى العارمة تنذر بشر العواقب، وأوكل إلى غرفة عمليات مركزية («موم» الأحرف الأولى بالتركية) أقامها في قاعدة عسكرية بجنوب تركيا، تنسيق الأعمال الحـربية. وأشرك فيها ممثلين للدول المنخرطة في العمـليات، إقليمية أو من خارج المنطقة. واستمال المنظمات السورية المسلحة المتحفظة بواسطة دفعات من صواريخ «تاو» المضادة للدروع تولت بعض دول المنطقة شراءها وتوزيعها والتدريب عليها. وذهبت الدفعة الأولى، في آذار 2014، إلى حركة «حزم»، إحدى فرق «الحر» المتحدرة من كتيبة الفاروق التي قاتلت دفاعاً عن حمص.
وتوقعت «حزم»، وكانت تعد 4 آلاف مقاتل وتنتشر في محافظات إدلب وحلب وحماه وتحصل على تمويل يبلغ مئات الآلاف من الدولارات، أن تؤدي دوراً حاسماً في المعارك المنتظرة. وخطط «م» وفريقه لمهاجمة «داعش» على محور أعزاز- حلب، من الشمال إلى الجنوب، وإكمال العملية التي طردت «الجهاديين» من حلب في كانون الثاني 2014. وتردد الأميركيون، وطال ترددهم، فهاجمت «النصرة» حارم، واستولت عليها في آب، وطردت جبهة ثوار سورية بقيادة جمال معروف. فانهارت الخطة، ومعها التصدي لـ «داعش» والتعاون السوري- الأميركي الميداني.
* فريق مراسلين، عن «لوموند» الفرنسية، إعداد منال نحاس | |
|