Date: Mar 26, 2018
Source: جريدة الحياة
الكرد «تفاحة الشرّ» في المنطقة! - رستم محمود
طوال أيام الهجوم التركي على منطقة عفرين، كانت التلفزيونات التركيّة تُجري مقابلات عامة مباشرة مع المواطنين الأتراك، ليعبروا عن آرائهم ومواقفهم من تلك العمليّة العسكريّة. الأغلبيّة المطلقة من التعليقات والأجوبة كانت ذات قيمة «أدبيّة» انفعاليّة، لا سياسة ولا تحليل ولا معرفة فيها. كان المستطلعون ينعتون المقاتلين الأكراد بالأشرار والكفار والانفصاليين والعملاء لإسرائيل وأميركا، وبكل ما قد تجود به مخيلتهم.

لم تكن تلك الآراء والتعابير بعيدة عما كانت النخب السلطويّة والقوى السياسيّة التركيّة تخاطب به القواعد الاجتماعيّة في البلاد، طوال شهور سابقة. فهذه النخب كانت تصطنع فضاء شعبوياً عاماً يتمركز حول فكرة بسيطة تقول: الأمة والدولة التركيّة في خطرٍ شديد، فالكرد في سورية والعراق يصعّدون طموحاتهم السياسيّة، وسوف يكون لذلك النهوض الكردي في دول الجوار تأثير بالغ على أكراد الداخل التركي، الذين يتحينون الفرصة للانقضاض على التوازن المختل بين الأتراك والأكراد في الدولة التركيّة، دولتنا.

ضمن هذا الجو، كان ثمة إيحاء عام يقول بأن الجماعة المركزيّة– الأتراك السنة الأحناف من سكان الأنضول– تتعرض لخطر وجودي من جماعة أقل قدراً ودوراً، هم أكراد تركيا والمنطقة. والأخيرون، بسبب هذا الخطر الذي يشكلونه، إنما يحملون كل سمات الشرّ الممكنة. كانت الدعاية العامة التركية تقول ذلك حرفياً وصراحة عن المقاتلين الأكراد والقوى السياسية الكرديّة في سورية والعراق، وحتى في تركيا نفسها، لكنها فعلياً، كانت وما تزال، تقصد الجماعة القوميّة الكرديّة في دول المنطقة هذه.

طوال قرن كامل مضى، كانت نخب الحكم والسلطة، وكذلك الجماعات القوميّة المركزيّة في دول المنطقة، تخلق من الكرد «عدواً وظيفياً»، شديد الطواعيّة والقابليّة لأن يحمل كل قيم الشر والسلبيّة، وعلى رأسها معاداة القوميات المركزية واستقرار دولها، وبالتالي كان الكرد أداة مناسبة لأن تصعّد نخب الحكم هذه برامجها وتطلعاتها وأيديولوجياتها بالتضاد مع ذلك «العدو» المفترض.

كانت طبقة الأعيان العثمانيّة/ العراقيّة قد فعلت ذلك أولاً في أوائل عشرينات القرن المنصرم. فبعيد انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة، سعت هذه النخبة لأن تعيد ترتيب مصالحها ومواقعها في الدولة العراقيّة الجديدة، تحديداً عبر معاهدة مع الانتداب البريطاني الذي سيحفظ لهم مواقعهم ومصالحهم الجديدة. ذاك أنه كلما كانت هذه المعاهدة مع الانتداب البريطاني تتعرض لرفض من قِبل بعض التنظيمات السياسيّة والقوى الجماهيريّة العراقيّة، كانت هذه النخب تبتز القوى الرافضة بالقول إن رفض المعاهدة مع الانتداب يعني خسارة العراق ولاية الموصل الملحقة بها، حيث يشكل الكرد أربعة أخماس سكانه الرافضين للاندماج في الدولة العراقيّة الحديثة، وأن البريطانيين وحدهم يستطيعون المحافظة على تابعية تلك الولايّة الوافرة بالخيرات للعراق الجديد.

كامل طبقات الحكم العراقية سارت في ما بعد على المنوال ذاته، الملكيون والعسكريون الموالون لعبدالكريم قاسم، ومن بعدهم القوميون الناصريون والبعثيون الصداميون على حدٍ سواء، وليس انتهاء بطبقة الحكم الطائفيّة الراهنة. دائماً كان العراقيون الحاكمون يتغلبون على تناقضاتهم الداخلية ويستحوذون على درجة معقولة من الشرعية الشعبويّة، عبر الإيحاء بوجود خطر داهم على كافة العراقيين العرب، يتمثل بالكرد الذي يسعون لتعكير هوية دولتهم القومية وسلامتها الجغرافية.

كذلك استخدمت واستفادت الأتاتوركيّة القوميّة التركيّة من نزعات التمرد الكرديّة عليها، وخلقت بالتضاد مع التطلعات الكرديّة، فضاء للوطنيّة/ القوميّة التركيّة، يشكل الرهاب من الكرد أُسّها الأكثر ثباتاً. تكررت تلك القاعدة بتواتر شبه ثابت، حينما كانت تندلع الانقلابات العسكرية أوائل كل عقد.

الشاه رضا بهلوي أسس شرعيّة حكمه لإيران الحديثة على تصديه لنزعات الاستقلال التي كانت تخالج أبناء قوميات الطوق الجغرافي الإيرانية طوال ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم. كان الكرد عبر تجربة «جمهورية كردستان» في مدينة مهاباد، والتي محقها الشاه في شهور قليلة، الجماعة الأكثر «نضوجاً» وقابلية لأن تروّج الشاهنشاهية الإيرانية أنها خطر على مستقبل البلاد والمجتمع الإيراني، وبذلك بناء شرعيّة حكمها للبلاد. كذلك فعل نجله محمد رضا، ومن بعده نظام الملالي. فمن خلال الحرب الشاملة على الحركة القوميّة الكرديّة في كافة مناطق كردستان إيران، بعد شهور قليلة من نجاح الثورة الإسلامية عام 1979، استطاع نظام الملالي أن يبتز ويمحق كل حركات التمرد والرفض السياسية الإيرانية الداخلية.

لم تخرج سورية عن تلك القاعدة، منذ تقرير أول وزير سوري للمعارف، محمد كرد علي، الذي كتب إلى الحكومة السوريّة عام 1931، منبهاً إياها من خطورة «تكريد» منطقة الجزيرة السوريّة، وداعياً إلى توزيع الكرد بين مختلف المناطق السوريّة حتى تذوب شخصيتهم الجمعيّة. مروراً بسياسات سحب الجنسية من مئات الآلاف من الكرد السوريين، في عهد الديموقراطيين الليبراليين العتيدين، رئيس الجمهوريّة ناظم القدسي ورئيس الوزراء خالد العظم أواخر عام 1961، وليس انتهاء بسياسات التعريب والاقتلاع البعثية فيما بعد، التي خط «أفظع» أدبياتها عضو القيادة القطريّة لحزب البعث الضابط محمد طلب هلال، في كتيبه الفاشي حول الكرد السوريين.

لم يغدُ الكرد مادة شديدة القابلية لذلك جراء مؤامرة أو نزعة كراهيّة متأصلة لدى شعوب المنطقة ضدهم، أو لشيء من ذلك، بل جراء عوامل موضوعية متراكبة في ما بينها، خلقت هذا التموضع الرهيب.

فمن جهة، الكرد هم الجماعة القوميّة الكبيرة الوحيدة في المنطقة التي ليس لديها دولة خاصة تدافع عنها، مثل باقي الجماعات القوميّة الأخرى، التركيّة والفارسيّة والعربيّة، والتي تعيش في المنطقة توازناً ما في ما بينها عبر الدول التي تمثل هوياتها ومصالح سكانها. وجميع هذه الدول اشبه ما تكون بأجهزة تنظيم كبرى للنزعات العصبوية القوميّة والطائفيّة لدى الجماعات المركزية فيها، وليست دولاً مؤسساتية حديثة، متساوية المسافة من الهويات الأهلية لمختلف جماعاتها المحليّة.

أخيراً، لا يزال الكرد يحافظون على موقعهم الثنائي القلق، فمن طرف بقوا الجماعة/ الأقلية الأوضح في رفضها للاندماج/ الانحلال في الهويّة القوميّة/ الوطنيّة المركزيّة في هذه الدول، كما لم يتحولوا إلى أقليّة هامشيّة يمكن القبول المرن بخصوصياتها الثقافيّة من دون السياسيّة من قِبل الأغلبيّة المركزيّة، كما حال المسيحيين في سورية والعراق. فالكرد على رغم بقائهم أقلية في هذه الدول، ما زالوا أقلية «خطرة»، محافظة على وحدة داخليّة شعوريّة ولغويّة وجغرافيّة في كل واحدة من هذه الدول.

* كاتب سوري