Date: Mar 17, 2018
Source: جريدة النهار اللبنانية
"المجتمع المدني"... التباس في المعنى وارتباك في الممارسة - فارس اشتي
يكثر في حمأة الانتخابات النيابية استخدام وسائل الإعلام وقوى مجتمعية تعبير "مجتمع مدني" و"منظمات المجتمع المدني" و"الحراك المدني"، ويضمر هذا الاستخدام الإدعاء بوجود مجتمع آخر غير مدني، ويُعنى بـ"المجتمع المدني" حضور قيم الحداثة ومفاهيمها وادواتها مقابل "المجتمع التقليدي" حيث تحضر الانتماءات الأولية، الطائفية والقبلية والعائلية، وتسود القيم التقليدية وادواتها. والسؤال الذي يطرحه هذا المقال: هل هذا التوصيف دقيق، وما دلالات استخدامه؟ 

المعروف والمتعارف عليها في العلم وصف الجماعات المتعددة والمتنوعة، إثنيا ومذهبيا وإنتاجيا وثقافيا، المنضوية في إطار انتظام سياسي واحد، وارقاه الدولة، بالمجتمع حيث ينتج تفاعل هذه الجماعات وصراعاتها قيماً ومعايير مشتركة تنظم شؤونهم وشجونهم وتحمي وحدتهم. 

يعني هذا الفهم البديهي للمجتمع نفي وجود مجتمعين في اطار سياسي واحد، وهو في لبنان نفي لوجود مجتمع مدني يواجه مجتمعاً تقليدياً، والموجود مجتمع واحد يُحسن ان يوصّف عند الباحثين فيه والعاملين ضمنه، فهو ، بالتأكيد، مجتمع غير تقليدي، وهو بالتأكيد ايضا، مجتمع غير حديث، فهو مجتمع هجين تتواكب فيه العناصر التقليدية والحديثة وتتراكب، فهما، التقليدي والحديث، موجودان في كل هيئة ومؤسسة وظاهرة في هذا المجتمع، والأمثلة كثيرة على ذلك.

وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا استخدام هذا التعبير" مجتمع مدني" و"منظمات المجتمع المدني" وما دلالات ذلك؟

إنّ الدافع لهذه التسمية، كما يلاحظ، هو الاصرار على التمايز عن القوى الطائفية الحاكمة والمتحكمة بالبلد ، دولة وجماعات وهيئات ومؤسسات، وهذا إصرار مرغوب ومطلوب، لكن غير كافٍ، وقد يكون مضللاً. فهل العطب في القوى الحاكمة والمتحكمة تقليديتها، والبعض منها، لا بل كلها،يتزواج خطابها الطائفي مع ارقى الوسائل الحديثة؟ وهل الامر اليومي السياسي، والانتخابات لحظته الراهنة، هو مواجهة بين التقليدي/ القديم والمدني/ الحديث، وهو امر راهن قد يُدرج ويندرج في هذه الصيرورة التاريخية، لكنه ليس هي؟

وفي السياسة والعمل السياسي، للأفراد والجماعات والمنظمات، البرنامج هو الفصل والمفصل، وقوام البرنامج خطة عمل ممكنة ضمن مدى زمني محدد يمكن لطارحه او طارحيه تحقيقه، فهو ليس اي نص مكتوب، كما درج ويدرج المرشحون على تسميته، ولا هو الغايات او الأهداف التي يسعى اليساريون، تقدميون وقوميون وليبراليون، للوصول اليها، ولا هو الشعارات الرنانة المستوحاة من غاية مبتغاة او من معاناة مريرة . وقد تتعدد النقاط البرنامجية، وقد توسع البعض فيها، مناطقيا وقطاعيا وعلى مستوى البلد، الإ أنّها لا تستقيم الا على محور جامع، وهو في هذه المرحلة نقاط محددة ومتواضعة على محور إعادة بناء دولة القانون، بما يتجاوز التبسيط في قصرها على حصرية السلاح بيد الدولة الى تطبيق القانون في كل المجالات؛ فالقانون، على علاته، ارقى من شريعة الغاب، والقوى الحاكمة والمتحكمة تقدم عشرات الأمثلة على خروجها عن القانون، ويشكل بعض منه نقاط برنامجية للسنوات الأربع التالية، فمن توافق القوى المتحكمة على ما سيقرر في مجلس الوزراء، دون اعتبار لمن اختاروه لتمثيلها، الى المكاتب التربوية التي تقرر ما يجب ان يصدر عن مجلس الجامعة، دون اي اعتبار لمن يمثلهم فيها، الى التلزيمات والمناقصات التي يُحتال فيها على القانون وهيئاته، والى تعطيل العمل بالدستور نفسه.

والبرنامج يعطي الأولوية لذاته، لا لاطرافه، وجاء اعتماد اللائحة في قانون الأنتخاب معززاً لذلك، وهو منغص لمعدّيه؛ اذ يتنافس اعضاء القوة الواحدة على الصوت التفضيلي فيها، في حين أنّه مدخل للمعارضين لإنتاج تحالف برنامجي، دون أوهام بالتصدر او بـ"النصر، او بالوجاهة.

والبرنامج، كخطة مرحلية ممكنة، لا يضير"المدنيون" و"التقدميون" و"القوميون" و"الليبراليون" التحالف مع من يتبنى البرنامج بصدق من خارج صفوفهم ومن المتضررين من القوى المتحكمة، ومصلحتهم مع المواجهة، فالنقاء الثوري مفقود في الحقل السياسي والمصلحة هي الحاضرة. وعلى ضوء توضيح الإلتباس في استخدام" المجتمع المدني" ودلالاته الحاضرة في الصخب الاعلامي لأطرافه يحسن العودة للصراع في مجتمعنا الهجين على ضوء همّ بناء دولة القانون وفي برنامج متواضع للوصول اليها، والإ يكون الصخب المدني في خدمة القوى الطائفية المتحكمة؛ اذ يؤمن لها رفع الحاصل الانتخابي، اولا، واظهار "ديموقراطيتها" باتاحة الفرصة للـ"معارضين"، نشاطاً وكلاماً عاليي النبرة وترشحاً، ثانيا، وإحكام السيطرة والتحكم، ديموقراطيا، ثالثا.

باحث لبناني