| | Date: Mar 11, 2018 | Source: جريدة الحياة | | اعترافات كوليت - سامر فرنجيّة | لم أكن «كوليت فيانفي» عندما اتصل بي «إ. غ.». كنت مجرد إشارات على شاشة كمبيوتر، لا علاقة لي بمواضيع معقدّة كالترويج لفكرة السلام أو حل الدولتين. وبالتأكيد لم أسمع عن التطبيع آنذاك وما زلت اليوم لا أفهم تماماً ما تعني هذه الكلمة، على رغم ما يردده منذ سنوات بيار أبي صعب (من دون أن يلقى آذاناً صاغية) من أن الثقافة «مجال صراع حيوي واستراتيجي يوازي في خطورته المواجهة العسكرية» (جريدة الأخبار، ٢٧/١١/٢٠١٧).
كنت مجرد إشارات تُركّب وتنفك حسب حاجات شبكات التواصل، إلى أن التقيت بـ «إ. غ.»، فبدأ يغازلني، ويعدني بحياة مثيرة، فيها سفر إلى إسطنبول وربّما إلى لبنان، إلى فندق يدعى «البستان». لم أكن متأكدة من أن السفرة الأخيرة ستحصل، ولكنّه كان مقنعاً. غاص بمكبوته الجنسي ليقدّم لي شكلاً أكثر جاذبية من بضعة أرقام وإشارات. فأصبحت شقراء الشعر، طويلة، بيضاء، سويدية. لم أفهم لماذا أصرّ على أن أكون سويدية، ولم يكن يجيبني كلما سألته عن الموضوع. كان فقط يبتسم ويؤكد لي أنّه ليس فقط «هاكر» بل هو يفهم رغبات جمهوره جيداً.
سويديةً أصبحت. أدعى كوليت. وذاهبة إلى «البستان» يوماً ما.
عندما قدّمني «إ. غ.» إلى المقدّم سوزان الحاج في جهاز أمن الدولة كضابط في الموساد، بدأت أشك بأنني لست مجرّد دعابة جنسية. أعلن وهو فخور بنفسه بأنني جاهزة لأكون على علاقة بشاب يدعى زياد عيتاني. لم أكن أعرف من هو زياد، وبدوا هم أيضاً ضائعين عن أي زياد يتكلمون. ولكن كانت المقدّم مستعجلة، واثقة من قدرتها على الفبركة، وتريد الانتقام لسبب ما زلت أجهله. رسا القرار على الشاب المسرحي، وقيل إنّه سيكون مثلاً لجوقة الكتاب والمثقفين والناشطين الذين يمرحون من دون مراقبة على شبكات التواصل الاجتماعي. بدأت أخاف، وأفهم أن لا سفر إلى لبنان إلا لكي اعتقل. ولكن المقدّم الحاج طمأنتني وقالت لي إن لها أصدقاء عديدين في الإعلام سيرددون كالأقلام المأجورة أن «ما قبل زياد عيتاني ليس كما بعده». كنت مدركة أن جملة «ما قبل ليس كما بعد» هي التهديد المفضل للممانعين في لبنان، ولكنني كنت أريد أن أزور إسطنبول وإن لمرة واحدة. ضابطاً في الموساد أصبحت.
لم ألتق زياد في إسطنبول. فهو لم يفارق زوجته طيلة الرحلة، وبقيت أنا منتظرة في الفندق مع الـ٥٠٠ دولار وبعض الثياب الجديدة التي طلب مني «إ. غ.» أن أرشو بها زياد. بقيت وحيدة في كمبيوتر زياد، في المكان الذي تركني فيه «إ. غ.» ولم أر شيئاً من إسطنبول. حتى زياد لم يرَني وبقي يجهل محادثاتنا المفترضة، ما أثار الغيرة عندي. فشلت في المهمة وبدأت أخاف بأن تعيدني المقدّم إلى ما كنت قبل زياد عيتاني، أي مجرّد إشارات على شاشة كمبيوتر. لكنني اكتشفت سريعاً أن فشلي لم يردع ضباط أمن الدولة من اعتقال زياد وتعذيبه. كانوا يرددون اسمي وهم يضربونه ولكنه لم يكن يعرفني. أنا كنت أعرفه كـ «إ. غ.» فحسب وهكذا تواصلت معه. لكن صمته جعلني أشكك بهذه العلاقة وبوجودي كضابط للموساد.
بدأ التوتر يظهر على وجوه ضباط أمن الدولة. لا أحد خارج السجن شكّك بروايتهم، حتى أصدقاء زياد. لكنّ الوقت بدأ يطول وليس هناك من اعترافات مقنعة، على رغم تسريباتهم الكثيرة. اقترح أحدهم أن نشوش الأمور بإدخال جنس إلى القضية. فعمالة لإسرائيل وجنس في عواصم العالم وجوقة إعلاميين مرتزقة كفيلة بفبركة أكبر ملف. أخذ مني «إ. غ.» الـ٥٠٠ دولار وطلب مني أن ابتز زياد من خلال فيديوات جنسية. رفضت هذا الأمر أولاً. فكنت أريد أن أزور فندق «البستان» ولكن ليس بأي ثمن. غضبت المقدّم وأقفلت شاشة الكمبيوتر بتوتر. وعندما أعيد فتحه بعد يوم، قرأت عنوان جريدة التسريبات «زياد عيتاني يعدّل إفادته: تعاملت مع العدو مجاناً!» (رضوان مرتضى، جريدة الأخبار، ٢٨/١١/٢٠١٧). أحست بعنجهية المنتصر وهو يضع علامة التعجب في آخر العنوان. قلت لنفسي أن لا شيء أقبح من غضب منتصر يدرك أنه خسر.
بعد هذه اللحظة لم أعد أقاوم. فهمت أن جهاز أمن الدولة ربح. الجميع باتوا مقتنعين بهذه الرواية السخيفة، فمن أنا لكي أقاوم. بدأت أطلب من زياد معلومات لا تهمني، وعلى الأرجح لا تهم الموساد. سألته عن رجل يدعى عبدالرحيم مراد. ردّد ببعض الإجابات السطحية. من هو أصلاً عبدالرحيم مراد، ما زلت لا أعرف. طلبت منه أن يتقرّب منه، ربّما يصبحان صديقين. الصداقة مهمة في الحياة. سكت زياد وساد صمت مربك. سألته، ربّما لكسر هذا الصمت الثقيل، عن التحوّلات الديموغرافية في بيروت، وأنا أعرف أنّه مهتم ببيروت وأحيائها. نظر إلي مستغرباً وسكت. كل ما كنت أريده هو تخفيف التوتر. لم يجب. غضب مني ضابط في الأمن العام، فوضعني جانباً وبدأ يردد أسماء كتاب وتهم بتشكيل نواة سلام. لم أفهم ما إذا كان السلام شيئاً جيداً أو سيئاً، إلى حين صرخ الضابط الكلمة السرية: «تطبيع». سكت الجميع، وفهم زياد أنّه انتهى.
بعد هذه اللحظة، لم يعد يسمح لي بالخروج من مكتب المقدّم الحاج. لم أعد أفهم ما يحصل. بدأ التوتر يزيد مع مرور الأسابيع. فهمت أن هناك القليلين من الصحافيين الذين ما زالوا يملكون شجاعة التشكيك بهذه الرواية. كان هناك غضب شديد على مدونة صغيرة رفضت الانصياع وراء تهديدات الأمن. ومع الوقت، بدأ التوتر يتحوّل إلى هلع. كانت هناك إهانات بحق محكمة عسكرية تشكّك، ومن ثم بدأ الغضب ينفجر على جهاز أمن يدعى «المعلومات». وفي ليلة ما، دخلت زوجة «إ. غ.» إلى مكتب الحاج وتشاجرتا. لم يهمني موضوع خلافاتهما. كنت مصدومة بأن «إ. غ.» متزوج، وأنا مجرّد دعابة عنده. وفي يوم ما، لم تأت المقدّم الحاج إلى مكتبها، وبدأ ضباط يحاولون محوي من ملفاتهم، ولكن الوحيد الذي كانت عنده هذه القدرة كان «إ. غ.»، وهو أيضاً اختفى. بقيت سجينة في سجن أمن الدولة، إلى جانب زياد الذي بات اليوم محجوزاً لعدم إحراج جوقة من المجرمين الهواة.
قد يخرج زياد لكونه «بيروتياً وعروبياً وأصيلاً»، كما صرّح من قدّم الغطاء الأولي لسجنه. أما أنا، فلست بيروتية وعروبية وأصيلة ولا أحد سيحررني من سجني، لا متطلبات انتخابية ولا صراع للأجهزة. لا شيء سيمنع كوليت أخرى من الظهور أو زياد عيتاني ثانياً من الدخول إلى السجن، وذلك إلى أن تتحقق مقولة: ما قبل زياد ليس كما بعده. وهذا لن يحصل إلا مع استقالة من هو مسؤول عن هذا الجهاز، اللواء توني صليبا، ومن هو مسؤول عن هذا المسؤول. إن حصل هذا بمعرفتهم، فهم مسؤولون. أما إن حصل ذلك من دون معرفتهم، فالآتي أعظم. أما أنا، فسأبقى مسجونة في غرف التعذيب في فرع أمن الدولة.
| |
|