| | Date: Mar 4, 2018 | Source: جريدة الحياة | | النقاش الموجع عن مآلات الثورة - ماجد كيالي | «ماذا لو أعلنت سورية استسلامها للأسد؟» هو عنوان لمقال حازم الأمين («الحياة»، 25/2)، لكنه، على الأرجح، ليس دعوة للاستسلام، ولا نعياً للثورة السورية، كما قد يشتبه بعضهم، وإنما هو سؤال تحريضي، يصدر عن وجع، وعن حسّ أخلاقي، وربما عن غضب إزاء القوى التي تلاعبت، أو تحكّمت، بمسار تلك الثورة، وأوصلتها إلى ما وصلت إليه.
يسند حازم سؤاله الاستنكاري - النقدي إلى واقع الصراع السوري، وأوضاع المعارضة، بارتهاناتها واضطراب خطاباتها وطرق عملها، على الأغلب، وإن كان يحيل ذلك، في هذه المرحلة، إلى حدث تفضيل «الاتحاد الديموقراطي» (الكردي) دخول قوى «قريبة من النظام» إلى مدينة عفرين «بدلاً من دخول الجيش التركي إليها، وتفضيل أنقرة دخول النظام ذات المدينة بدلاً من بقائها تحت سيطرة حزب بي يو دي». وعنده حتى «قيادة الائتلاف السوري المعارض» انضوت تحت هذا الخيار، لقربها من السياسة التركية. ويرى الأمين أن ذلك يعني «اختناق كل المشاريع التي تستبعد النظام عن الحل النهائي»، و «هزيمة فعلية لما تبقى من قوى المعارضة»، إذ «لم يعد في الأفق إلا بشار الأسد، وهذا ينطوي بدوره على فاجعة وعلى مأساة.» كما يعتقد بأن «تزامن الحدثين (عفرين والغوطة) يوحي بأن الحل في سورية ينطوي على قبول بالوظيفة الدموية للنظام» من جانب «موسكو وأنقرة وطهران... وواشنطن».
ولا ينسى أن يذكّر بأن «رعاة المعارضات السورية» الذين «قبلوا بتسليم المدينة للنظام، سبق أن أهدوه مدينة حلب». ويختم الأمين مقاله قائلاً: «الهزائم تتتالى... البحث عن عدد أقل من القتلى هو الخيار الأسلم...»، مع الدعوة إلى ذهاب «وفد الائتلاف السوري إلى دمشق بدل أن يذهب إلى محيط عفرين وأن يُعلن من هناك استسلامه»، باعتبار أن ذلك «قد يفضي إلى عدد أقل من القتلى، ناهيك بأنه يُحرر الائتلاف من وظيفة المستتبع المُهان...». وهي دعوة، تستدعي التحفظ ولا جدوى منها، لأنها صادرة عن روح غاضبة ومستنكرة ومليئة بمشاعر المرارة والخذلان وثقل المأساة.
الجدير ذكره أن هذه الأفكار ليست جديدة، إذ سبق لعديد من المساندين توق السوريين إلى الحرية والكرامة أن تحدثوا عن ذلك في فترات مبكّرة، ضمنهم حازم الأمين، وهو ما سبق أن عرضته في مادتي: «في رثاء الثورة السورية أو نقدها» («الحياة»، 4/5/2014)، انطلاقاً من إدراك الأخطار التي باتت تتعرض لها ثورة السوريين، مع تحولها نحو العسكرة (صيف 2012)، وإخراج غالبية الشعب من معادلات الصراع ضد النظام، وتشريد الملايين منه في الخارج، وما استتبع ذلك من ارتهان المعارضة بكياناتها السياسية والعسكرية لأطراف خارجية، وتصدر الكيانات التي تتغطّى بالدين، ما أدى إلى إزاحة الثورة عن مقاصدها الأساسية المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، ما أضر بها، وزعزع مصداقيتها وصورتها عند شعبها وفي العالم وخدم النظام. وكنت عرضت، وقتذاك، آراء في مقالات لحازم صاغيّة: «الربيع العربي: متى نقول إنه فشل» («الحياة»، 6/4/2013)، وحسام عيتاني: «قبل نعي الثورات»(«الحياة»، 13/8/2013). وعصام الخفاجي «في رثاء الثورة السورية» («الحياة»، 26/3/2014): وسامر فرنجيّة: «العودة إلى الثورة» (6/4/2014) وياسين الحاج صالح: «انهيار الإطار الوطني للصراع في سورية»(«الحياة»، 18/11/2013)، من دون إغفال كتابات وآراء ميشيل كيلو وبرهان غليون وعمر قدور وسميرة المسالمة وأكرم البني وحازم نهار وفايز سارة وعلي العبدالله، كأمثلة.
هكذا، فعندي أن مشكلة الثورة السورية تحددت منذ البداية، على الأغلب، بضعف استقلاليتها، وافتقادها إلى إجماعات وكيانات سياسية وطنية، وارتهانها للمداخلات والتلاعبات الخارجية، وحصرها الصراع مع النظام بالوسائل المسلحة. وأن مشكلة المعارضة بكياناتها السياسية والعسكرية، التي تصدرت الثورة وتحكمت بخطاباتها ومساراتها وطرق عملها، أنها لم تراجع تجربتها، بطريقة نقدية ومسؤولة، طوال السنوات الماضية، وأنها ظلت تتابع طريقها على رغم الانكسارات والتراجعات والتعقيدات، منطلقة في ذلك من عقلية رغبوية ومزاجية أو من عقلية قدرية أو تبعاً لتوظيفات وإملاءات خارجية.
ثمة اعتقادان خاطئان يمكن أن تتركّز عليهما، أيضاً، المسؤولية عن تدهور أحوال الثورة والمعارضة، والكارثة التي ألمت بالسوريين، أولهما، الاعتقاد بإمكان حصول تدخل خارجي من أي مستوى (لا ننسى جمعة «التدخل الخارجي»)، ولو حتى على مستوى فرض مناطق حظر جوي أو مناطق آمنة، عزّز من ذلك التصريحات الأميركية والتركية بخاصة، لا سيما عن الخطوط الحمر وبأن الأسد عليه أن يرحل، ونزع شرعية النظام في جامعة الدول العربية، يضاف إلى ذلك نموذج ما حصل في العراق وليبيا سابقاً، والتشجيعات على العمل المسلح. وفي المحصلة، فإن السوريين تعرّضوا، على هذا الصعيد، لإنكار منقطع النظير، إذ لم تفعل الدول المشجعة شيئاً لتجنيب السوريين الأهوال التي تعرضوا لها، حتى على مستوى وقف القصف والتدمير والتشريد، حتى الآن، بل إنها سمحت بدخول إيران وروسيا إلى جانب النظام في الصراع ضد شعبه.
وثانيهما، الاعتقاد بحتمية انتصار الثورة دفعة واحدة (ما يذكّر بمآلات ما يسمى «ساعة الصفر» و «ملحمة حلب» مثلاً)، علماً أنه في السياسة وفي الثورات، وفقاً للتجارب التاريخية، لا توجد حتميات، فالثورات قد تنتصر أو تنهزم، كما قد تنحرف عن مقاصدها أو تتم السيطرة عليها، كما يمكن أن تحقق أهدافها بطريقة تدريجية أو جزئية. ويبدو أن بعض قيادات المعارضة لا يدرك ذلك، وبعضاً آخر لا يمتلك الجرأة السياسية والأخلاقية لتوضيح هذه الحقيقة المرّة لشعبه، على نحو ما صرّح الأمين في مقاله، وصرح بها الخفاجي بكل قوة (آذار/مارس 2014). الأمر الذي كان يفترض، قبل الوصول إلى هذه المآلات المأسوية، تخفيف وتائر فاعليات الثورة، وضمنه تخفيف الصراع المسلح بدل تصعيده، للحفاظ على طول النفس، وتجنيب البيئات الشعبية مزيداً من الكوارث، وبالتصرف على أساس أن الثورة أثبتت ذاتها، في هذه المرحلة، بخروج الشعب إلى الشارع، إلى مسرح التاريخ، في مواجهة النظام للمرة الأولى، وتعبيره عن ذاته في صيحته: «الشعب يريد إسقاط النظام»؟ باعتبار كل ذلك مرحلة أو «بروفة» بانتظار مرحلة قادمة أنسب؟ («أسئلة لا تناقشها المعارضة السورية»، «الحياة»، 2/8/2016).
ولعله كان الأجدى انتظار تلك اللحظة، أو الظروف والمعطيات المناسبة، للاستثمار بها والبناء عليها، بدلاً من مزيد من التخبط والارتهان وتحميل السوريين أكثر من قدرتهم، وهو ما حصل بعد صيف 2012. والمعنى أن ثورة بوتائر صراعية أقل، وتطورات كفاحية متدرّجة، مع بقاء السوريين في أرضهم، وحرمان النظام من استخدام أقصى قوته، كانت أفضل بكثير مما حصل، والذي أدى إلى كارثة على السوريين، وثورتهم، كما بينت التجربة. وبالتأكيد فإن ذلك كان أفضل وأكثر جدوى من المكابرة والإنكار أو من الندب وإلقاء اللوم على الآخرين.
| |
|