Date: Feb 25, 2018
Source: جريدة الحياة
تعالوا لنختلف عما إذا كانت إبادةً أم مجرّد مذبحة - عمر قدور
ربما كان من الأفضل لو كتبت هذه السطور سيدة تدعى ورد مارديني، ورد التي أتيح لها أن تكتب على صفحتها في فايسبوك قبل قليل: إن وصلكم خبر استشهادي يوماً، لا تحزنوا عليّ، ادعوا لي بالرحمة، وسامحوني. قبل ذلك بيومين أتيح لورد أن تعرّف بنفسها، فهي كما تقول من سقبا في غوطة دمشق الشرقية، كان طموحها أن تدرس الصحافة، لكن حصار قوات الأسد للغوطة قتله.

كتبت ورد ذلك التعريف لتقول لنا إنها مثل كل الذين يستحقون حياة عادية، أو بالأحرى مثل البشر جميعاً الذين لا يستحقون الإبادة، وكانت في القليل من تغطياتها الصحافية المنشورة من قبل قد أخبرتنا مثلاً عن الطفلة «بارعة» التي قتلها القصف الوحشي في بلدة دير العصافير، وأخبرتنا كيف هرعت أمُّ بارعة من نقطة طبية أُسعف إليها ابنها الآخر الذي قُتل لتطمئن على ابنتها التي ماتت جراء الإصابة في نقطة طبية أخرى.

لهواة هذا الصنف تحديداً، لا تقصّر رسالة ورد في توبيخ قادة الفصائل الموجودة في الغوطة وتحمّلهم قسطاً من المسؤولية عن اليوم بسبب تناحرهم على المكاسب والسيطرة، وتدعو حتى إلى الاستسلام لأنها تريد الحياة لأهل الغوطة ولأطفالها. لأطفالها هي أيضاً الذين أنجبتهم أثناء الحصار، وهذه أيضاً إشارة إلى هواة هذا الصنف من توبيخ المحاصرين أو المهجّرين في المخيمات بسبب قدرتهم على الغرام والإنجاب، وعدم مراعاة ظروفهم التي تستوجب منهم التحول إلى جثث حية لا علاقة لها بأيٍّ من غرائز الحياة الاعتيادية.

ما يصلنا من الغوطة، منذ بدء القصف الوحشي الكثيف المتواصل بالطيران الروسي والأسدي، صور معفّرة بالدماء أو بغبار البيوت المدمرة لأشخاص يحتضرون أو مقتولين. البعض ممن في طريقهم إلى هذا المصير قد تتاح له فرصة إرسال رسالة ليقول لنفسه، قبل أن يقول لأحد آخر، إنه لم يُقتل بعدُ من القصف أو التجويع، أو حتى من القهر وهو يرى كل ذلك على مدار الساعة.

يمكن في هذه اللحظة سماع صوت متململ يسأل: ما الجديد؟ ألم يكن السوريون يُقتلون طيلة سبع سنوات بصرف النظر عن طريقة القتل؟ ما الجديد إذاً حتى يُثار موضوع الغوطة؟ ثم ألم يكن محتماً بعد حصار لسنوات الوصولُ إلى هذه النتيجة؟ وهل يُنتَظر من بشار إبقاء الخطر على تخوم عاصمته؟ ومن قال إن هناك حرباً رحيمة أو خالية من مثل هذه المآسي؟ أوليس لدينا في التاريخ البعيد والقريب سجل حافل من فظائع الحروب؟

نعم، قد نواجه كل هذه الأسئلة المتململة «البريئة»، وكأننا نتحدث عن مسلسل رتيب، أو عن عادة بشرية متأصلة ومذمومة فحسب. وكما هو معلوم ومتوقع، وفق هذا المعيار، أفضل طريقة لإشاحة النظر عن المجازر هو تكرارها، فالمجزرة الأولى تكون أبلغ أثراً من العاشرة أو المائة. المجزرة الأولى قد تتصدر نشرات الأخبار، أما العاشرة فقد يكون ترتيبها الإعلامي مطابقاً لرقمها، وقد لا تُذكَر إطلاقاً لانعدام عنصر التشويق فيها.

ذلك قد يعني أيضاً النظر إلى المذبحة المتكررة على أنها من طبيعة الحرب، حيث يغدو لكل مذبحة جديدة ظروفها الميدانية. يمكن في حالة الغوطة مثلاً التوقف عند هدف تأمين العاصمة لتنظيم الأسد، أكثر من التوقف عند تجويع أهلها لمدة سنوات قبل الإقدام على إبادتهم في النهاية. وعندما يكون لكل مذبحة ظروفها فلن تكون لخاصية التشابه والتكرار من مغزى، باستثناء مغزى الاعتياد، وتكرار التساؤل عما إذا كانت ترقى لأن تكون جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، على غرار توصيفات درج على استخدامها قادة دوليون أو مسؤولون أمميون.

الضحية في حالتنا، وفي سياق متكامل من المجازر، هي ضحية إبادة ممنهجة. هذا ما لا يُراد الإقرار به، سواءً على مستوى دولي أو حتى على مستوى محلي، بما في ذلك سوريون يحتسبون أنفسهم على المعارضة، ويملكون حساسية إزاء تصنيف يحتمل مدلولات طائفية تعلو على حساسيتهم إزاء الإبادة ذاتها. وقد تأتي الحساسية المذكورة بدعوى منع ثأر قد يُبنى على الإبادة الحالية، أو قد تأتي على أرضية الإنكار التام لموضوعة الإبادة واعتبار كل ما يجري حرباً سياسية خالصة ينتهج فيها تنظيم الأسد العنف المطلق الذي هو من طبيعته.

على المستوى الدولي، كان منذ البداية توصيف الحرب الأهلية مخادعاً، لا لجهة إهماله كون ما حدث ثورة على الاستبداد فحسب، وإنما أيضاً لما يوحيه الوصف بوجود تعادل في ميزان القوى لا يحوز فيه طرف كافة مقدّرات البلاد التي احتكرها لمدة أربعة عقود. لا يمكن مثلاً تشبيه الحالة السورية بالحرب الأهلية اللبنانية التي لم يلعب فيها الجيش دوراً يُذكر، وتُرك ميزان القوى لوزن القوى الداخلية ومقدار دعمها الخارجي، قبل أن تُسلّم جميعاً لوصاية الأسد.

نحن إزاء نظام استخدم المسألة الطائفية منذ أول تظاهرة، وبعده بأشهر قليلة رفع حلفاؤه من حزب الله والحرس الثوري شعارات الثأر لزينب، ثم أتى الاحتلال الروسي ليعلن بلسان لافروف أنه لا يريد انتقالاً في الحكم قد يتسبب باستلام السُنّة مقاليد الحكم. في الواقع يصعب أن نكون على موعد مع فصاحة ووضوح أكبر مما أعلنه هذا التحالف، ثم اختصره بشار الأسد مسروراً بنتائج الإبادة والتهجير وحصوله على مجتمع أكثر تجانساً من قبل.

في محصلة السنوات السبع لدينا ما يقارب المليون قتيل، وما يزيد عن مئتي ألف معتقل لا يُعرف عدد الذين قُتلوا منهم تحت التعذيب، ولدينا ما يزيد عن ستة ملايين مهجّر. هذه حصيلة أبلغ من أي جدل حول ماهية جريمة الإبادة والتغيير الديموغرافي، يُضاف إليها حملات تشيّع يقودها الإيرانيون بكثافة تحت الضغوط والإغراءات المالية. بالطبع هذا الجانب لا يختزل القضية السورية، لكن الأرقام تتحدث عن إبادة وتهجير ثلث السكان، وعلينا التمعّن فيها جيداً لفهم وجه سورية المقبل، وأيضاً لفهم أسباب إبادة أهالي الغوطة اليوم، وتلازمها أسوة بكل ما سبقها مع حملات ضخمة للموالين (على وسائل التواصل الاجتماعي) تدعم الإبادة بأقذع العبارات وأشدّها توحشاً. نعم، الإبادة تحلّق بجناحين، بالمحرّضين عليها وبمن ينكرونها.