| | Date: Feb 9, 2018 | Source: جريدة الحياة | | السودان: أزمات الداخل على هامش التجاذبات الإقليمية - محمد جميل أحمد | بعد وقائع كثيرة، محلية وإقليمية، بدا واضحاً أن سياسات نظام الخرطوم أصبحت أكثر ارتهاناً للأجندات الخارجية، لا سيما إثر انفصال الجنوب، ونتائج الحرب الأهلية في دارفور (التي ترتبت عليها ملاحقات من المحكمة الجنائية الدولية للرئيس عمر البشير) وسياسات الفساد الحكومي. حتى ليمكننا القول إن تلك الخطايا السياسية ربما كانت اليوم المبرر شبه الوحيد لقراءة وتفسير علاقات نظام الخرطوم في سياساته الخارجية، وما تميزت به من هشاشة وخفة وسريِّة.
والحال أنّ ذلك التهافت الذي فرَّغ السياسة الخارجية للسودان من المصالح الوازنة، انعكس في الداخل بطريقين، الأولى: استثمار أي "نجاح" في تلك العلاقات، داخلياً، في مزيد من الهيمنة والقمع. والثانية: تصوير فشل السياسات الخارجية وآثارها المنعكسة في ردود فعل بعض دول الجوار على أنها تهديدات أمنية، يتم تسويقها بالحديث عن واجب الدفاع عن الوطن، عبر بث إشاعات من شأنها إلهاء السودانيين عن أوضاعهم المعيشية الصعبة.
هذا ما بدا واضحاً في الأحداث الأخيرة التي شغلت منطقة القرن الأفريقي، على خلفية توتُّر العلاقة بين مصر وإثيوبيا في موضوع سد النهضة، وتزامنه مع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى السودان، وما تم خلال تلك الزيارة من إبرام اتفاقيات عدة بين تركيا والسودان، كان أبرزها اتفاق تأجير جزيرة مدينة سواكن (كشفت بعض المصادر الأميركية أنه تم تأجيرها لمدة 99 عاماً!). وعلى هذا النحو الذي اضطربت فيه العلاقات السياسية، بين السودان ومصر، من جهة، وبين مصر وإثيوبيا، من جهة ثانية، بدا الوضع مناسباً للاستثمار في التخويف من الخارج، والزعم بأن مصر وإريتريا تستهدفان إسقاط النظام في الخرطوم! وكان واضحاً أن مزاعم إسقاط النظام، عبر الحدود، مجرد دعاية روّجها النظام للهروب من مشكلاته الداخلية. فلا أحد في الجوار يتبرع له بهدية كتلك!
ربما خمّن نظام الخرطوم، الذي بات مدركاً فشل ورقته خليجياً، أن تظهر ردود فعل محتملة من طرف مصر والإمارات وإريتريا نتيجة للخطوة التي أقدم عليها بتأجير جزيرة مدينة سواكن لتركيا، فيما كان يعرف تماماً أن التحدي الذي سيَواجهه تحدٍّ داخلي، لا خارجي. لهذا ظل يستثمر في الدعاية والتخويف، إذ كان يتمنى تحركات عسكرية أجنبية على حدوده، أو حتى مناوشات للمعارضة (إن وجدت) لأنه من خلال تلك الأجواء يبحث باستمرار عن سند لشرعيته الآفلة.
لقد بات في حكم المؤكد أن محاولات النظام، عبر استثمار تناقضات سياساته، وتوجيهها داخلياً لقمع الشعب، لم تعد لها فائدة. فالحراك الشعبي يوم 16 كانون الثاني (يناير) الذي دعا إليه الحزب الشيوعي السوداني، واستجاب له عديد القوى السياسية والشباب، بدا لكثيرين من المراقبين كما لو أنه ردّ حقيقي على عدم اكتراث الشعب بسياسات التخويف وإشاعات التعبئة الكاذبة التي يروج لها النظام بدعوى حماية الوطن.
هكذا، فيما كانت التظاهرات تتجدد في أكثر من مدينة سودانية، كانت ردود الفعل الإقليمية في القاهرة وأسمرا وأديس أبابا تعكس بوضوح ما فضح أجندة النظام للتعبئة الداخلية باتجاه الخارج. فقد صرح الرئيس المصري: "لن نحارب أشقاءنا في السودان"، فيما كرر الرئيس الإريتري كلاماً شبيهاً بكلام الرئيس السيسي عن السودان. كما أن زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي إلى مصر للتشاور حول موضوعات سد النهضة، كشفت بجلاء أن تعبئة نظام الخرطوم كانت، في الحقيقة، استثماراً داخلياً في الترغيب والترهيب!
إنّ السياسات الخارجية لنظام الخرطوم باتت تندرج، منذ زمن بعيد، في خانة ردود الفعل الباهتة على الوقائع الإقليمية من حوله. وهذا يعني أنه بات لا يملك القدرة على اتخاذ قرار الحرب والسلام في منطقة القرن الأفريقي.
لقد أصبح قرار الحرب والسلم، المتصل بالحراك الجيوسياسي هناك، قراراً إثيوبياً بامتياز. ولا تنعكس مفاعيله في كل من أسمرا والخرطوم إلا كردود فعل في هاتين العاصمتين حيال حساباتهما الداخلية. وهذا ما يؤكد لنا أنّ تآكل الشرعية الأقصى للأنظمة القمعية قد يولّد ردود فعل هستيرية هي مزيح من التعبئة الداخلية للتخويف من عدوان خارجي والاستثمار في الإشاعات والأكاذيب، حتى لو كانت مما يكاد لا يصدقه العقل. وفي هذه الخانة تقع محاولة النظام حين أوهم البعض بأن القاهرة تستهدف إسقاطه عبر دولة إريتريا، ومن مدينة حدودية في شرق السودان اسمها كسلا!؟
* كاتب سوداني | |
|