Date: Sep 26, 2015
Author: Nazih Darwish
Source: جريدة المدن الالكترونية
المؤامرة المدنية في نصابها
أن تدعم السفارات والمنظمات الحكومية الغربية، مبادرات شبابية، ولو كانت سياسية أو بأجندات سياسية، دعماً تقنياً أو لوجستياً أو مادياً (ورش عمل، دورات تدريبية، تسهيلات إعلامية، تقنيات إتصال) في أي بلد (عربي أو غيره)، فذلك لا يشكّل انتقاصاً من هذه المبادرات أو عيباً فيها، طالما بقي هذا الدعم في إطاره المذكور آنفاً ولم يتحوَّل الى "تجنيد" لهؤلاء الشباب كمُخبرين أو مخرّبين أو حَمَلة سلاح.

ما عدا ذلك، فكل مساندة وكلّ دعم يبقى مشكوراً ولو لم يكن مفيداً أحياناً. طبعاً السفارات ليست "كاريتاس" أو أي جمعية خيرية! ولم يدبّ فيها غرام النظرة الأولى مع الشباب المعترض، وهي التي حكوماتها دعمت طويلاً (وما زالت) أنظمة وحكومات الدول التي يعترض عليها هؤلاء الشباب بالذات. وبالتأكيد لهذه السفارات أسبابها وأهدافها وحتى أجندتها الخاصة، التي إذا ما تقاطعت في ظروف معيّنة مع أهداف وتطلعات الشباب، فلا تعيبها ولا تصبح تطلّعات الشعوب مؤامرة أو عمالة أو نذالة.

ولكن لنلقِ نظرة سريعة على هذه الأهداف "السفاراتية"، وكيف تعمل حتى لا يذهب بعقلنا الشطط "المؤامراتي" أو يأكل فيه حلاوة.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا ودول عديدة حول العالم، ودخولها في مراحل انتقالية (منها الناجح ومنها المتعثّر)، تغيّرت طبيعة القوى السياسية والاجتماعية في هذه الدول، ووجد عدد كبير من الشباب الحزبي سابقاً، نفسه، عاطلاً عن العمل وعن التفكير. مدفوعاً بحسنات التربية اليسارية (عدالة اجتماعية، حقوق الانسان وحقوق المرأة، إخاء بين الشعوب، حنوّ على الضعفاء والفقراء، صداقة مع البيئة، الخ..) وجد ضالته في الجمعيات والمنظمات "المدنية" التي قلّصت أهدافها وقصَرتها على القضايا المحلية الما-دون سياسية، أو التي تلامس السياسة من دون أن تغرق فيها لأسباب ذاتية، أهمها عدم توفّر قيادات لديها خبرة في العمل السياسي المباشر. وقد استقطبت جيلاً جديداً يافعاً في معظمه لم ينخرط سابقاً في تنظيمات وتجارب حزبية، ولأسباب موضوعية أهمها طبيعة المرحلة الانتقالية حيث واكب سقوط الحزب الواحد أو الحكم الأحادي، وانفتاح البلاد فجأة على ثقافات جديدة وأنماط حياة جديدة، سخطاً اجتماعياً كبيراً على "الايديولوجيا" وعلى الأحزاب والتنظيمات السياسية...

من الجهة المقابلة، فإن الحكومات الغربية التي "استثمرت" طويلاً وكثيراً في الحرب "الباردة" مع المنظومة الاشتراكية، وأنشأت البرامج والوكالات والادارات الضخمة، منها الاستخباري ومنها العسكري، لكن منها أيضاً الاعلامي والفكري والتجاري و"الاجتماعي"، كأدوات مواجهة مفتوحة مع "الايديولوجيا الشيوعية" لكسر الستار الحديدي وادخال الحصان الخشبي الى طروادته، وجدت نفسها أيضاً "عاطلة عن العمل"، وميزانياتها الضخمة لم تعد تجد تصريفاً لها. فالتفتت الى تلك الجمعيات المدنية الناشئة حديثاً وشجّعتها أولاً على كسر الحواجز النفسية، مع الثقافة الغربية، في هذه المجتمعات "الما-بعد شيوعية"، عبر إدخال مفاهيم وقيم "الديموقراطية الغربية" التي حُوربت سابقاً، وثانياً، لمدّ الجسور وبناء الثقة معها عبر تزويدها بالخبرات والمساعدات المادية. نجحت في معظم الأحيان في هذه المهمة لأنها غيّرت أيضاً في نمط تعاطيها السابق مع هذه الشعوب. شجعتها على وضع أجنداتها المحلية المختلفة ولم تهتم بإبراز دورها وعَلَمها و"ماركتها" على هذه الجمعيات.

ساعدت الثورة التكنولوجية في ميدان الكومبيوتر والاتصالات والبرمجيات، ومن ثم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي (يوتيوب، فايسبوك، تويتر..) هذه الجمعيات الناشئة على حجز أرضيات لها والانطلاق في حملات المناصرة والتحشيد بسهولة ومن غير كبير عناء وتمويل، خصوصاً أن الفئات المستهدفة في التأطير هي في الأساس الشباب المتعلّم والطبقة المتوسطة وهواة ومدمنو التواصل الاجتماعي، إضافة الى "الناشطين" الاجتماعيين والسياسيين (بنسبة أقلّ).

شجع نجاح التجربة في عدد كبير من دول أوروبا (الشرقية)، "المانحين"، على تكرارها في المجتمعات العربية التي تتشابه ظروفها الاجتماعية والسياسية الى حد كبير مع مجتمعات المنظومة الاشتراكية السابقة. وزيّن لها "الربيع العربي" أن الأمر قابل للتحقق، خصوصاً بعد نجاح التجربتين التونسية والمصرية في تغيير نظام الحكم (ولو لم تتحقق أهداف الثورتين). والحال أن ناشطي الإعلام الاجتماعي لم يكونوا في مكان "الثوار".. بل كانوا أقلية في بلاد لم تعرف اختراقات كبيرة على صعيد تكنولوجيا المعلومات والاتصال. لكنهم كانوا "طليعة" في فكّ "عقدة الألسن" وتحدي السلطات، متسلّحين بفضاء الانترنت المفتوح الذي شكّل ما يشبه "شبكة حماية" عالمية لهم. فلم يعد هناك بعد الآن ما يسمى بالحدث المحلي. كل الأحداث تنقل وتصبح في متناول سكان الكوكب، مهما كانوا قريبين أو بعيدين من مسرح الحدث. ويعيد الاعلام العالمي بثها ككرة ثلج لا تتوقف إلا وقد صار حجمها هائلاً.

ليس هدف هذا السرد (التبسيطي) الدراسة المعمّقة. هو فقط لوضع "المؤامرة" في نصابها الحقيقي!
فلنعد الى "الحلاوة".

قد يكون لأحدنا ملاحظات كثيرة معتبرة أو مآخذ على "الحراك المدني" الذي انفجر مؤخراً في بيروت. قد نأخذ عليه استسهاله المزج بين "المدني" والسياسي. ارتجال المطالب وعدم حصرها في المسألة الأساس وهي قضية معالجة النفايات وتالياً الفساد، أوقعه في مأزق انسداد أفق التغيير في واقع لبناني معقّد أفضت كل محاولات تغييره سابقاً الى حروب أهلية. وقد نأخذ عليه فشله في استثمار تراجع الطبقة السياسية مرات عديدة، خلال شهرين، خصوصاً عدم اعتبار هذه التراجعات انتصارات يُراكَم عليها، بدلاً من السقوف الخرافية التي وضعها الحراك كمثل إسقاط النظام برمّته أو استقالة وزراء أو تغيير قانون الانتخابات الى نظام الدائرة الواحدة النسبية خارج القيد الطائفي (وهو ما عجزت عن تحقيقه الحركة الوطنية في أوج عزّها بقيادة كمال جنبلاط). وقد ننتقد انزلاقه الى شعارات وممارسات يساروية جديرة بأحزاب ايديولوجية وليس بحركة مدنية من المفترض ان تكون عابرة للطبقات الاجتماعية، أو ضعفه البنيوي تجاه محاولات ركوبه من شخصيات بائدة... وغيرها من الملاحظات السلبية (والكثير من الايجابيات) التي ليس هنا والآن مجالها.

لكن بالتأكيد، من السخافة القفز فوق واقع الناس المزري والمتفاقم والذي لم يعد افتراضاً، وقد يكون حراك الناس معه بهذا الحماس هو الجانب الحاسم فيه، لربطه بدورات تدريبية لبعض القيّمين عليه أو بأجندات خارجية أو غيرها من عدّة شغل الأنظمة الاستبدادية التي استخدمت التعابير ذاتها في وصف حراكات الشعب في تونس ومصر وسوريا وفي كل مكان قال فيه أحدنا "لا للاستبداد"! (مع إدراكي باختلاف المنطلقات والأهداف والنتائج لهذه الحراكات).
من السخافة اتهام منظّمي الحراك (وهو بالمناسبة الى الآن غير منظّم) تارة بالشيوعية، وتارة بالتعامل مع السفارة الاميركية، أو بالعمالة لها.. وغداً ستساق اليهم تهم الماسونية وفرسان الهيكل والمؤامرة الكونية.. وهم أنفسهم كانوا وُصفوا سابقاً بالأولاد!

ولكن ماذا نفعل؟ إنه جهاز الدفاع الذاتي العقيم نفسه، للطبقة نفسها. بدلاً من الانكباب على حلّ المشاكل، وقد انتخبوا للقيام بذلك، يتلهون بكيل الاتهامات والشتائم وفبركة وترويج الاشاعات! جماعة "الإصلاح والتغيير" كانوا سبّاقين في ذلك، وتبعهم زملاؤهم باجتهاد كبير.
واستمرّ اللبنانيون في انتظار الطاعون القادم.