Date: Sep 20, 2015
Source: جريدة الحياة
إلى صفوف التظاهرة الخلفية أيها الآباء الشرهون - حازم صاغية
ردت الفنانة اللبنانية شذا شرف الدين على صفحتها على «فايسبوك» على المعترضين على تلاوة رلى ثلج بيان «بدنا نحاسب»، بعد الاعتصام أمام وزارة المالية اللبنانية، قائلة: «طالما أنها تريد أن تحاسب فما المشكلة في مشاركتها»، بينما كان دافع المعترضين أن ثلج وجه محسوب على طرف سياسي هو جزء من الانقسام اللبناني، ومقربة من شخصيات وقوى من جماعة «8 آذار». شذا محقة بما ذهبت إليه، فثلج كما نحن وكثيرون مثلنا، لبنانية ومعنية بمطالب المتظاهرين، ولها أن تشارك. لكن تلاوتها بيان المجموعة التي تولت التظاهر على باب وزارة المالية له دلالة أخرى. فتصدر أي وجه سبق أن استهلكه الانقسام السابق على الحراك، سيرتد على المتظاهرين، ويسهل مهمة القائلين بأن ثمة من يسعى إلى توظيف التظاهر في مشاريعه الانقسامية.

الشرط الأساسي لنجاح تحركات المتظاهرين في مواجهة فساد الطبقة السياسية بأكملها هو قدرتها على اختراق انقسام 8 و14 آذار. هذا الشرط لاح في بداية التظاهر، ونجح الناشطون في تظهيره على أجمل وجه، فشارك في تظاهرة 21 آب (أغسطس) لبنانيون خرجوا لتوهم من مناطق انقسامهم، وشارك أيضاً من لم يسبق له أن شارك في أي تظاهرة. وفي 9 أيلول (سبتمبر) حصل ذلك وإن على نحو أقل. وفي هذا الوقت جرت مقاومة ضارية لهذه الوجهة تولتها قوى الانقسام نفسها، واستجابت لها شرائح شرع بعضها بالابتعاد عن الحراك، فيما أمعن آخرون بتحدي هذه الوظيفة عبر تعمد صبغها بهوية سياسية وحزبية، تُهدد اندفاعته.

والحال أن تهافت قوى الانقسام واندفاعها لانتزاع التظاهر من أهله وشبانه لم يقتصر على تعمد تصدره، بل شمل أيضاً الشعارات والمهام والوقائع. وعلى رغم ذلك قاوم الشبان شراهة «آبائهم»، وسادت قناعة بأن شرط النجاح هو القدرة على الابتعاد بالتظاهرة عن ثنائية النزاع العقيمة، والتي لم تنتج إلا تبادل الحماية بين الخصوم.

يُدرك اللبنانيون بأن قوى الانقسام لم تفقد قدرتها على الحشد والاستقطاب، وفي لحظة كهذه، سيتحول أهل الحراك نخبةً غير فاعلة وغير مؤثرة. أما النجاح في الإبتعاد بالمطالب وبالمهام عن أي شبهة صلة بالانقسام السابق عليه، فسيؤمن له مساحة تأثير تم اختبارها. وبهذا المعنى فقوى سياسية مثل الحزب الشيوعي اللبناني، القريب من «حزب الله»، والحزب التقدمي الاشتراكي، الركن الدرزي للنظام السياسي، أو بعض نخب الأمانة العامة لـ»14 آذار»، ستكون مضرة للحراك، وسيفضي تصدرها له إلى رده إلى موقع في الانقسام يعيد النظام عبره تجديد قدرته على إستعادة الخارجين من قطيعهم المذهبي والسياسي.

هناك لحظة خروج عن منطق النزاع بصيغته التقليدية، وهذه اللحظة انتجها شبان هم من خارجه فعلاً، ويبدو القول بضرورة «ترشيد» الحراك عبر تزويده بخبرات أجيال سبقت هؤلاء الشبان إلى «الساحات» ضرباً من الهباء. فمن سبقوا هؤلاء الشبان مُنيوا بفشلين، الجيل الأول أفضى نزوله إلى الساحات إلى حرب أهلية (حنا غريب وشربل نحاس ونجاح واكيم)، والجيل الثاني من الفاشلين هم رموز «14 آذار» ممن قرروا أن يزودوا الشبان بـ»خبراتهم» في التظاهر والتنظيم وترتيب الشعارات، ذاك أن أكثر من مليون لبناني خرجوا وراء هؤلاء وكانت النتيجة ما يتخبط به لبنان اليوم.

نجح الشبان المتظاهرون بتصوير اندفاعتهم الأولى بصفتها منطقاً مختلفاً. مَشينا وراءهم ساعين إلى تجنيبهم أثقال مشاركتنا، نحن الذين أفسدنا الانقسام واستهلك وجوهنا وخياراتنا. وما جرى لنا كان تمريناً ضرورياً على القبول بحقيقة أننا فشلنا، ولهذا بدا لنا التظاهر بصيغته الجديدة رياضة مختلفة لم نألفها. فواحدنا لم يتخلّ عن قناعاته السابقة على التظاهرة اللبنانية، وها هو في الوقت نفسه يشارك في تظاهرة تستهدف النظام الذي حمل هذه القناعة وشكّل قاعدة اشتغالها. والنظام هنا ليس سلطة متبلورة بأجهزة ومؤسسات وقوى عسكرية وأمنية، انما هو نظام الانقسام الذي أخضَعنا وجعَلنا جزءاً من جماعاته و»شعوبه»، وبنى على إخضاعنا شبكات نفوذه في الأمن والإقتصاد والمؤسسات.

هذه الرياضة قاسية لمن لم يُغادر قناعاته، لكنها ضرورية إذا ما أراد المرء أن يكون جزءاً من الرغبة في التغيير. وحامل هذه القناعات من غير الفاسدين، سيجد قناة لتصريف قناعاته في غمرة هذه التظاهرة الغريبة العجيبة. فمن يعتقد أن مشروع الحريري ركن الفساد في لبنان، فذهابه إلى مواجهة الفساد سيكون ذهاباً في المواجهة مع هذا المشروع، ومن يعتقد أن النظام كله معد لمهمة واحدة هي تلبية الشرط الإقليمي لوظيفة «حزب الله»، وأن منظومة الفساد ليست سوى قناع لتسويات داخلية تؤمن للحزب استقرار مهمته، فأي تصويب لمهمة النظام وأي حد من فساده سيفضيان إلى تقليص هذه المهمة الإقليمية لحساب المهمة الداخلية.

وبهذا المعنى ليس مهماً على الإطلاق الكشف عن «استراتيجيات المواجهة». النظام هو كل هؤلاء، وعبارة «كلن يعني كلن»، على بديهيتها وعاديتها، حملت هذه الدلالة. والشبان ممن لا يضمرون لـ»شعوب» الانقسام ضغينة، أبدوا مرونة، غير معهودة بمن سبقهم من أجيال المتظاهرين، حيال أي انزلاق نحو الانقسام الجوهري. جاء من هددهم إذا لم يُنزلوا صورة أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله من بين صور زعماء دولة الفساد فاستجابوا بأن نزعوا كل الصور، مقدمين رغبتهم في انجازات مباشرة ويومية على ميولهم في تحدي وجوه النظام. كان هذا نجاحاً في مقابل فشل لا بد من تسجيله هنا، فأكل «النيفا» في الزيتونة باي والذي دعا إليه حنا غريب وشربل نحاس، انطوى أولاً على احتقار للفقر وتنميطِ «أغنياء يساريين» له، بصفته «أكل النيفا» وليس مكابدة أكلاف العيش، ومن جهة أخرى انطوت الخطوة على رغبة باستدراج الانقسام إلى معاودة الانعقاد على قاعدة «8 و14» آذار.

أذرع النظام في الشارع ستكون أقوى إذا ما ارتسم الانقسام بصفته تجديداً للنزاع بين 8 و14 آذار. وبينما لم تحمل المواجهة بين المتظاهرين وعناصر حركة «أمل» نهار الأربعاء الماضي بُعد مواجهة بينهم وبين قوة أهليه هي جزء من «8 آذار»، فإن الاستمرار في هذا الانجاز يحتاج إلى مزيد من التمسك بشعار «14 و8 عملوا البلد دكانة».