Date: Sep 19, 2015
Source: ملحق النهار الثقافي
الحراك المدني : هل بقي النظام لنطالب بإسقاطه؟ - علي حرب
العراق يفاجئنا
ها هو الحراك الشعبي، العربي، ينفجر مجدداً، ومن حيث لا نتوقع. ولا غرابة فمن طبيعة الحدث أن يكون مفاجئاً وغير منتظر. وكان مفاجئاً، حقاً، أن تحدث انتفاضة شعبية عارمة في العراق، وسط هيمنة الاحزاب الدينية وتسلط الميليشيات الطائفية. غير ان الكيل قد طفح بعدما وصلت البلاد إلى الحضيض الاسفل: دولة عاجزة، ادارة غارقة في الفساد، أموال تهدر وتنهب، خدمات معيشية معدومة، جيش كبير ينهزم ويستسلم.

هذه هي حصيلة تسلم حزب ديني، "حزب الدعوة"، مدعوماً من نظام الولاية في طهران، مقاليد الأمور في العراق، وبخاصة في عهد نوري المالكي، حيث بلغت الأحوال منتهاها سوءاً وتردّياً. وهكذا، انكشف الغطاء وسقط القناع: كل الشعارات التي أطلقها رجال الدين حول رفع المظلومية وتحقيق العدالة، كانت شعارات خاوية وقضايا زائفة تلغمها الغرائز الطائفية والثقافة العدوانية، مما اوصل العراق إلى الاخفاق في السياسة والادارة، كما في الاجتماع والاقتصاد، أو الأمن والاستقرار. وكان من الطبيعي أن تتحرك القوى الحية والمدنية في المجتمع العراقي، وأن تخرج عن صمتها وتكسر خوفها، لكي تتصدى لآلة الخراب والفساد. من هنا رُفع شعاران متلازمان: الأول هو محاسبة رموز الفساد ومحاكمتهم، والثاني هو إعادة الامور إلى نصابها، بحيث يتم كسر منطق العصبيات الطائفية لإصلاح الاحوال وإعادة البناء في الإطار الوطني الجامع للعراقيين على اختلاف طوائفهم واعراقهم.

ولن يتحقق ذلك بتمويه المشكلة، بل بتشخيص العلّة، بحيث يجري العمل على استبعاد الاحزاب الدينية التي أمعنت في تخريب العراق، وفكّ الارتباط مع نظام الوصاية في طهران. المهمة صعبة بالطبع. من هنا أقدمت القوى المعادية للحراك الوطني على اغتيال بعض قادته.

أياً يكن، فما حصل يعني أن لا عودة إلى الوراء، والرهان أن تتحول شرارة الحراك إلى قوة مجتمعية فاعلة تفتح الابواب والفرص لبناء عراق جديد، يتحرّر من الشبح الصدّامي والغول الديني.

لبنان ينتفض مجدداً
كان مفاجئاً أيضاً أن تحصل في لبنان انتفاضة بالتوازي مع الانتفاضة التي يشهدها العراق. فقد انفجر الحراك الشعبي تقوده القوى الجديدة، الحية والفتيّة، رافعةً أيضاً شعارين رئيسيين، بعدما صار الفساد مهنةً والتخريب مهمّة: الأول محاسبة رموز الطبقة الفاسدة بوجهيها السياسي والديني، وإصلاح النظام ببناء مجتمع وطني عابر للهويّات والخصوصيات الطائفية والثقافية.

لم يكن هذا التزامن بين الانتفاضتين، في العراق وفي لبنان، مجرد مصادفة. للأمر معقوليته ومنطقه. إذ لا شبه للبنان، من حيث العبث بكيانه ومصيره، الاّ العراق. فكلا البلدين وقع ضحية لنظام ولاية الفقيه الذي حاول أتباعه من العرب نقل نموذجه إلى بلدانهم.

الحراك والثورة
أتوقف عند الحراك اللبناني، محاولاً القراءة في عناوينه وتوجهاته، مستفيداً في هذا الخصوص، من التجارب القريبة والبعيدة.
حسناً أن الحراك لم يقع في فخ الشعارات الكبيرة، الخاوية والمطلَقة، التي دفع ثمنها لبنان والشعوب العربية أثماناً باهظة. بل اشتغل بما هو أجدى وأكثر فاعليةً، ولذا كان التركيز على طرح المطالب الملحّة والملموسة المتعلقة بتدبير شؤون الحياة اليومية للناس: من الكهرباء التي تنقطع في عزّ الحرّ، إلى انقطاع المياه في بلد يعدّ قصر ماء، ومن قانون الإيجارات الذي أقرّه مجلس النواب ثم تبيّن أنه غير قابل للتطبيق إلى سلسلة الرتب والرواتب التي تواطأ الضدان في الخط السياسي والمنبت الطائفي، على "تطييرها"، مع انها محقة ومشروعة؛ هذا فيما هم يسكتون على أعمال الهدر والنهب التي لو جرت مكافحتها لعادت على الدولة بمبالغ تكفي لإقرار السلسلة وللقيام بمشاريع تنموية عديدة.

نمط جديد
لا شك أن الحراك يحتاج إلى قيادة تدير شؤونه وتنسّق ما بين مختلف مكوّناته وشعاراته. أقول قيادة، ولا أقول نخبة، لأن هذا المصطلح قد استهلك وأخفق أهله، وأصبح مشحوناً بمعاني النرجسية والاحتقار للناس والعزلة عن المجتمع وهمومه.

لنحسن قراءة التجارب. فالشعارات ترجمت بأضدادها على يد أصحاب المشاريع من النخب الثقافية والسياسية. يشهد على ذلك مآل فكرة الوحدة التي دمّرها من فوق دعاتها والمنظّرون لها، فيما الشعوب العربية، بقطاعاتها المنتجة وقواها الحيّة، انخرطت، من تحت، في خلق وتشكيل ما يحتاج إليه العمل العربي المشترك من المساحات والفضاءات أو الأطر والآليات، لا يعرقلها في ذلك إلا صراعات الحكّام وحساسياتهم المفرطة بعضهم تجاه بعض.

المؤدى من ذلك أن المجتمع اليوم لم يعد مجتمع النخبة والخاصة، في ضوء التغيرات التي طرأت مع الموجات الحداثية والثورات الصناعية الفائقة والجديدة، حيث المجتمع أصبح شبكة تأثيراته المتبادلة وتحولاته المتواصلة، ولذا فإن أعمال الإصلاح والتغيير لم تعد تتم بعقل فوقي أو بمنطق متعالٍ، بل بلغة المشاركة والمداولة والمبادلة، بين مختلف الحقول والقطاعات والفاعليات. فالحكومة الناجحة هي التي تخلق الأجواء والفرص لكي يكون كل مواطن مشاركاً في أعمال البناء، بقدر ما يكون منتجاً وفاعلاً.

في كل حال، إن الحراك الذي انفجر في الشارع، سواء أكان مدعوماً من هذه السفارة أو تلك الدولة، وسواء اندسّ فيه غوغائيون أو مشبوهون، فإن مسوّغه ومشروعيته أنه أتى كردّ فعل على فقدان الدولة مشروعيتها وفاعليتها، وعلى عجز الطبقة والنخبة السياسية والفكرية في آن واحد. لهذا هو يكسر وصاية النخب ومنظّري الثورات الإيديولوجية، وبخاصة الذين ما زالوا يتعاملون مع مشكلة لبنان بالأفكار التي أوصلته الى مأزقه. إن الحراك ينتج قادته ويشكل قواه، أو يبتكر لغته وشعاراته وأساليبه في الميدان. وأنا أوثر استخدام كلمة "حراك"، لا كلمة "ثورة"، لأن ما يحصل لا هو ثورة جماهيرية ولا هو ثورة نُخب ثقافية. إنه نمط جديد من العمل السياسي الميداني والمدني. مما يعني أننا سنشهد ظهور فاعلين جدد، غير ما نتصوره أو نعرفه. أشير بشكل خاص إلى بروز المرأة الميديائية وسط المشهد، وهذا من مفاعيل الانتقال من عصر العضلة إلى عصر المعلومة. في هذا المعنى، الحراك هو الذي يغيّر المثقف، وليس المثقف هو الذي يطلق الحوار أو يقوده.

المطالب الحياتية
التغيير هو سيرورة شاقة وطويلة، من التراكم والتحويل والتخطي، يعمل بها المجتمع على نفسه، وعلى نحوٍ تتغير معها العقليات كما تتغير العناوين المطروحة، كالعدالة والديموقراطية والدولة المدنية، على سبيل الإغناء والتطوير. ومن دون تغيير في المفاهيم والقيم، لا يتحقق إصلاح أو تغيير.

من هنا لا يجدر رفع السقف لطرح المطالب وإطلاق الشعارات الكبيرة، التي لا يمكن الوفاء بها أو لا نملك أدوات تحقيقها. كما هو شعار إسقاط النظام، إلا إذا كان المقصود إسقاط الحاكم الفاشل أو الفاسد. ثم هل المطلوب فعلاً هو إسقاط النظام؟

لنحسن استخلاص الدروس والعبر. إن المجتمعات العربية أفادت من عهود الاستعمار والانتداب أنظمة ديموقراطية، مدنية، بل ليبيرالية، كما شهدت التجارب في مصر ولبنان وسوريا، ولكنها لم تحسن تحديثها وتطويرها. ما حصل هو العكس: إطاحة المكسب الديموقراطي والمدني والدستوري، بعد الدخول في عصر الإيديولوجيات القومية التحررية والأحزاب اليسارية التقدمية. ولما أتت الأحزاب الإسلامية، في كلا المعسكرين المتصارعين، أجهزت على البقية الباقية من مفاهيم الحداثة وقيم المواطنة وقواعد الديموقراطية.

وتلك هي حصيلة الانشغال بالعناوين الكبيرة والمهام التاريخية والوعود الإلهية، كالوحدة والتحرّر والاشتراكية والمقاومة والممانعة، فضلاً عن مصطلحات الخلافة والولاية وشعار "الإسلام هو الحل": فقر وجودي وإخفاق حضاري، تدجين الشعوب وابتلاع مطالبها، تسميم العلاقات بين الناس وتفجير المجتمعات العربية. باختصار تلغيم الحاضر وسدّ أبواب المستقبل، لأن ما رُفع من شعارات كان عبارة عن عناوين فارغة وقضايا زائفة أو دعوات مستحيلة ومغامرات غير محسوبة.

النموذج الافضل
في لبنان، الذي هو بيت القصيد، كان هذا البلد صاحب النموذج الأفضل للعيش، بدستوره المدني، وقانونه التعدّدي، وفضائه الليبيرالي، ونظامه الديموقراطي. هذا ما اعترف به الكثيرون من العرب والغربيين، بدليل أن لبنان كان ملجأً للهارب من جور حكوماته وفقر بلده. لكن النظام اللبناني كان يحتاج إلى شيء من التطوير والتحسين، لمواجهة المستجدات واستجابة تطور الحياة وتعاظم الحاجات. غير أن الطبقة السياسية التي تعاقبت على الحكم، لم تهتم بذلك، بل لم تفكر فيه أصلاً، مع أن المكاسب من حريات وحقوق وخدمات ليست نهائية، وإنما هي تحتاج دوماً للعمل المتواصل عليها، تعزيزاً وتطويراً وتفعيلا. لعل اللبنانيين أخذوا نظاماً ديموقراطياً، مدنياً، لا يصلحون له. لذا أداروا الأمور بمنطق المحاصصة الضيقة، على أساس الطائفة أو العائلة أو الولاء الحزبي والسياسي، وكل ذلك تم على حساب قيم المواطنة والديموقراطية أو الكفاءة والجدارة.

لهذا نرى أن أكثر الأحزاب السياسية، التي رفعت رايات الحداثة والديموقراطية والحرية، تحولت إلى مؤسسات طائفية، أو غلبت عقلية الوراثة والقرابة على قواعد اللعبة الديموقراطية، وعلى ما يشهد انتقال السلطة من السلف إلى الخَلَف في تلك الأحزاب، منذ عهد الإستقلال حتى الساعة.

ثمة استثناء يحضر هنا، هو المحاولة الإصلاحية والإنمائية في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958- 1964)، هذه المحاولة الوحيدة والرائدة، افاد منها الجميع على اختلاف طوائفهم، وبخاصة الطبقة الوسطى والفئات المهمَّشة. لأنها تجاوزت منطق الطائفة نحو العمل الوطني المشترك والجامع. لكن "أكلة الجبنة"، كما وصف الرئيس الإصلاحي ساسة عصره، قد التفّوا، بتكالبهم وجشعهم، على هذه المحاولة الناجحة، بقدر ما انخرطوا في التسابق المحموم على المناصب والمنافع، بأي وسيلة كانت، وعلى حساب المصالح العمومية للشعب اللبناني. بذلك لم ينجح اللبنانيون في إقامة دولة القانون والمؤسسات، حيث يتساوى الجميع في الحقوق المدنية والحريات الديموقراطية. مع ذلك بقي النظام شغّالاً، بالرغم من اختلالاته. ولذا كان الناس راضين عنه، متغاضين عن سيئاته، تجاه ما كان يقدّمه من خدمات وفرص للعمل وللحياة.

الشعارات المقدسة
لكن جيلنا، نحن المثقفين، كان يقفز عن المكاسب ولا يرى سوى المساوئ بسبب العمى الإيديولوجي والتشبيح الثوري. أما أهلنا فكانوا أبعد نظراً وأكثر حكمة. إذ كانوا يقولون لنا: نظرياتكم ومشاريعكم لا تصلح للبنان. نحن بألف خير قياساً على الماضي البائس، أو بالمقارنة مع الأحوال المتردية في أكثر البلدان العربية.

لكننا لم نقتنع، فركبتنا الأوهام وانخرطنا في مشاريع التغيير والتحرير، بعدما ازدهرت شعاراتها وسطع نجومها، وكما تجسد ذلك برفع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة" التي عاملناها بوصفها قدس الاقداس، وخصوصاً بعدما أتت منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان، ممّا حوَّله مسرحاً للصراعات والتجاذبات المحلية والعربية والإقليمية. بذلك حُمّل البلد الصغير فوق طاقته، مما أدى إلى انفجار الحرب الاهلية التي كانت، بتعدّد مستوياتها وأطرافها، عبارة عن حرب الكل مع الكل وضد الكل، إذ شارك فيها كل الرفاق والإخوة والاشقاء، من لبنانيين وفلسطينيين وعرب، لم يكن الاقتتال بينهم أقل شراسة من مقاتلة إسرائيل. وكانت الحصيلة تمزيق لبنان، ومن دون استرجاع ذرة من أرض فلسطين.

لكن يبدو أننا لا نفيد الدروس من التجارب المرّة والفاشلة. فالذين أتوا بعد عهد عرفات، من لبنانيين، لإصلاح الأمور، رفعوا سقف القداسة ولواء العصمة. والأدهى أنهم ربطوا لبنان بمحاور إقليمية وسياسات خارجية، الأمر الذي وضعه بين فكّي الكماشة: الديكتاتورية القومية والأصولية الدينية. وكلتاهما عملت للسيطرة على لبنان، تعريباً أو أسلمة، لكي يصبح على شاكلة البلدان التي تتحكّم بها، بلداً استبدادياً فقيراً، أو مجتمعاً ظلامياً متخلّفاً. بذلك فقد لبنان ميزته بقدر ما مُنِع من أن يعود إلى وضعه كبلد آمن مستقر، مزدهر.

بيروت المنتهكة
الأمثلة فاضحة في هذا الخصوص. لنتأمل الأحوال في مدينة بيروت التي كانت، في عهد الانتداب وفي العهد الليبيرالي الذي تلاه، نظيفة، آمنة، مستقرة، مزدهرة، وبحسب مقاييس ذلك الزمن. أما اليوم، وبعد تطور العلوم والأدوات والوسائل، فإن بيروت قد تراجعت إلى الوراء سواء على المستوى الحضاري والمدني، أو على مستوى الخدمات الحياتية للمواطن التي بلغت الآن حدودها الدنيا. هكذا فالعاصمة هي الآن ملوّثة بعدما أغرقتها النفايات، وهي قلقة بعدما ضاقت الفرص وانعدمت الإمكانات، وهي مشوّهة بسبب انتشار الفوضى والعشوائيات والانتهاكات المتواصلة للنظام العام ولقواعد السلوك المدني وآدابه. وهي إلى ذلك أمست غير آمنة، بعدما سيطرت لغة التهديد والوعيد، ونُصِبَت الخنادق الرمزية أو المادية، بسبب العصبيات الطائفية والكيديات السياسية والإنخراط في الحروب العربية التي جعلت لبنان هدفاً للمنظمات الإرهابية. الشاهد هو تحول مقار الرؤساء والوزراء وقادة الأحزاب وزعماء الميليشيات وكبار الضباط إلى مربعات أمنية هي أشبه بالثكن العسكرية.

وفي بيروت الغربية وبالتحديد في شارع الحمراء في منطقة رأس بيروت، التي هي مقصد السائح والمثقف ومحب مزايا لبنان، أغلقت منذ زمن معظم دور السينما. أما الظاهرة الأبرز اليوم، وسط المشهد، فهي كثرة المتسولات اللواتي يجلسن في الشوارع مع اطفالهن. تلك هي حصيلة حروب الأهل، قتلاً وتهجيراً وتشريداً. تلك هي حصيلة ما تراكم على لبنان من عهود الوصاية والتحكم أو القبض والاحتلال، الفلسطيني والسوري والإيراني. أن تصل الأمور إلى منتهاها تقهقراً وتردّياً: بلد هو ساحة مفتوحة وسائبة، وطن معلّق على صليب الشعارات المستحيلة، دولة يلغمها الفساد هي حائرة وسط ملفاتها الشائكة، عاجزة عن حلّ مشكلاتها المتراكمة.

ثقافة الفساد
هل الفساد يُسأل عنه فقط بعض الحُكّام والساسة وكبار الموظفين؟ من التبسيط والخداع قول ذلك. لأن الفساد هو ثمرة ثقافة سائدة وعقليات راسخة هي المسؤولة عمّا يحصل من فوضى وفلتان أو من انتهاك وتشبيح، مما جعل الفساد الذي هو شذوذ وآفة يصبح هو القاعدة والوظيفة. هذا ما تشهد به المثالات السيئة على كل المستويات: من السياسي الفاسد الذي يتعامل مع الدولة والاملاك العامة كما لو أنها ملكه، إلى التاجر المجرم الذي يبيع الأغذية أو الأدوية الفاسدة، ومن الموظف الذي يقبض راتبه ولا يذهب إلى عمله، إلى السائق الذي يقود سيارته بصورة تخالف القانون، ومن صاحب المولّد الذي يطلق النار على الشركة التي تريد تأمين وصول التيار الكهربائي على مدار الساعة، إلى العصابات التي تقطع الطرق وتخطف الأبرياء لقاء فدية على مسمع المسؤولين أو بعلمهم. لا أنسى نفسي وقبيلتي أو طائفتي الحداثية، كما يجسدها المثقف الذي أفنى عمره بطرح شعارات الديموقراطية والعلمانية، لكي ينتهي بتأييد الأنظمة الاستبدادية والحكومات الدينية. ولا نستهينن بالتفاصيل. فالفساد على المستوى المصغّر هو الوجه الآخر للفساد من فوق وعلى المستوى المكبّر. من هنا يبدأ الاصلاح من تحت لكي يصل إلى فوق، فيتجسد في إجراء سياسي أو تشريع قانوني أو نموذج تنموي أو تطور مجتمعي

مع ذلك لا ينبغي المبالغة بالتعميم، هناك قلّة فاسدة في لبنان لها فاعلية كبيرة، ولكن هناك أكثرية صامتة ما زالت تحرص على احترام النظام المدني العميق للمجتمع اللبناني، الذي يتيح تسيير الأمور، حتى لو كانت الرئاسة شاغرة أو الحكومة معطلة أو الدولة غائبة. وهذه الأكثرية الصامتة تشكل المنبع الذي تتغذى منه قوى التغيير السياسي والمجتمعي.

إشكالية الطائفية
أصل من ذلك إلى لبّ المشكلة: قضية الطائفية لأقول بأن لكل شيء وجهه الآخر. هنا أيضاً كان لتعدّد الطوائف حسنته في لبنان. لأن ذلك هو الذي وقف وراء تشكل مساحة الحرية التي تمتع بها، وليس عشق اللبنانيين للحرّية كما يحسبون أنفسهم وكما يخال بعض العرب.

لكن مراعاة حقوق الطوائف، التي نصّ عليها الدستور، كانت مجرّد بداية وليست قاعدة نهائية. غير أن حكّام لبنان ومنظّري الطائفية حالوا دون اشتغال اللبناني على هويته وتحويلها لتشكيل هوية وطنية عابرة للطوائف، حيث المساواة أمام القانون في ما يخص الحقوق المدنية والحريات الديموقراطية. فما حصل هو العودة إلى الوراء، بتحويل الطائفية إلى نظام دائم للمحاصصة، حيث القاعدة هي المساواة في المكاسب والمفاسد. ثم حصل الأدهى والأخطر. فبعد صعود الإسلام السياسي وانفجار الصراع بين أصحاب الخلافة وأتباع الولاية، من السنّة والشيعة، انفجرت الحرب الأهلية في غير بلد عربي، الأمر الذي كانت له ارتداداته السلبية على لبنان.

بذلك تحوّلت الطائفية من قاعدة للتعدّد أو نظام للمحاصصة إلى مشروع خلاص ونهج حياة أو إلى نظام للحماية والوصاية يمارسه أصحابه بصورة عنصرية، فاشية، تؤجج الأحقاد وتصنع العداوات بين الناس، بقدر ما تضع لبنان من جديد على شفير الحرب الأهلية. من هنا لم تعد الطائفية تحمي أحداً، وسط هذا الجنون الديني الذي يمزّق غير مجتمع عربي، بل هي ترتدّ على أصحابها لتحولهم إلى مشاريع قتلى، وكما يحصل في سوريا والعراق واليمن، فضلاً عن لبنان نفسه.

مستثمرو الإرهاب
من الخداع اعتقاد بعض العرب والغربيين بأن النظام السوري الذي بات يعمل تحت وصاية إيران، ثم روسيا، هو الذي يحمي الأقليات المسيحية والعلوية والدرزية والحوثية والشيعية من خطر تنظيم "داعش".

ما يجري هو عكس ما يدّعي أصحاب الثالوث المذكور: إيران وروسيا وسوريا. فالحروب المشتعلة في دول المشرق العربي، بقيادة إيران وتدخلها، التي تستهدف تفكيك المشرق العربي، تطال بنهاياتها الكارثية الجميع، ليس فقط الأكثرية السنّية، بل كل الأقليات التي تتحول إلى وقود لإنقاذ أنظمة الاستبداد والفساد، أو إلى أدوات لخدمة استراتيجيات اللاعبين الكبار على المسرح.

إنه لمن الغريب أن تلجأ فرنسا، بحجة المجزرة التي شهدتها باريس في مطلع العام، على يد المنظمات الإرهابية، للتدخل العسكري في سوريا ضد هذه المنظمات، لتكون النتيجة لصالح النظام ومحوره الإقليمي، إذ هم الذين عملوا على إخراج "داعش" من السجن أو إيقاظه من نومه في كهوف الشريعة، لإستثماره وتوظيفه، وفقاً للإستراتيجيا الجهنمية التي تتبعها الأنظمة الشمولية: خلق أعداء في الداخل والخارج ومحاربتهم لتسويغ الإستيلاء على السلطة والبقاء فيها، أو لتبرير فشلهم والتغطية على مساوئهم. بذلك يقدم له الذين يدّعون محاربته، المشروعية ويمدّونه بأسباب البقاء. هكذا، فنحن ندّعي محاربة الإرهاب، فيما نحن من استدعاه أو صنعه أو استثمره. لا أنسى هنا الولايات المتحدة الأميركية التي كانت المستثمر الأول للإرهاب الإسلامي، فجنت على نفسها وعلى العالم.

فخ الأقلية
إن إنقاذ لبنان يعني من جهة أولى التحرر من براثن الثنائية الشيعية - السنّية، ويعني ثانياً الخروج من قوقعة الأقلية التي هي بمثابة فخّ تحيل أصحابها، تحت ذريعة حمايتهم، ضحايا على مسرح الحروب الدائرة في المشرق العربي، لتفكيك دوله وهدر ثرواته وتخريب بلدانه وعمرانه. وما دام العرب هم المستهدفين بمختلف طوائفهم، فإن الممكن هو أن يتصرف اللبناني بوصفه صاحب هوية مركّبة وعابرة، بأبعادها المتعددة، سواء من حيث هويته الوطنية بحيث يمارس خصوصيته كلبناني تحت سقف الدولة وقوانينها، أو من حيث إنتماؤه العربي بحكم اللغة الجامعة والمصالح المشتركة، فضلاً عن المصير المشترك الذي يعبث به اللاعبون الكبار والصغار. ولا أنسى البعد العالمي، وخصوصاً أن اللبناني يتباهى بعالميته وحبه للمغامرة. آن لنا أن نتحرر من ثنائية الأكثرية والأقلية التي هي المشكلة وليست الحل. فهل نمارس كره هويتنا الوطنية أو العربية كما يفعل كثيرون من الشيعة العرب من فرط تماهيهم مع مرجعيتهم الأقليمية، أم نتراجع عما طرحه المسيحيون العرب في عصر النهضة حول الفكرة العربية، ولأقل الإطار العربي الجامع، فيما اليوم التحديات جسيمة والأخطار على المصير محدقة من كل صوب ومن كل طامع بالغنيمة.

النظام البديل
لا شك أن النظام اللبناني يحتاج إلى الإصلاح، وإن كان أهله والممسكون به هم الذين أهملوا إصلاحه، وبخاصة ساسته الذين التهوا بحفظ مناصبهم وتنمية ثرواتهم، بصورةٍ مشبوهة أو غير مشروعة. فلا يوجد أصلاً نظام سياسي، في العالم، لا يحتاج اليوم إلى الإصلاح، وسط المتغيرات المتسارعة والأزمات المفاجئة، فكيف اذا كان أصحاب النظام في لبنان وصلوا به إلى الحائط المسدود عجزاً وفساداً وتدهوراً مريعاً في شروط العيش وفرص العمل.

لكن من يريد الإصلاح، يجدر به أن يشخص العلّة، لكي يحسن أن يجد المخرج. العلّة الرئيسية الآن، في لبنان، ليست في الدستور ولا في قانون الانتخاب، ولا في النظام نفسه. انها تكمن في مكان آخر: ثمة من قبض على لبنان وأقام نظاماً للحكم، هو غير النظام القديم الذي نريد إصلاحه أو اسقاطه. إنه نظام غير منصوص عليه، صامت أحياناً ومعلَن أحياناً أخرى، قد فُرض بقوة الأمر الواقع. ولهذا النظام رئيسه ورموزه وأركانه، كما له مؤسساته وخططه وجيشه. وهو الذي يعطل عمل الدستور، ويشلّ عمل الحكومة، ويمنع انتخاب رئيس للجمهورية، بل هو الذي يعطّل عمل مجلس النواب نفسه، في انتظار الفرصة، وكما يفكّر أهله، لصوغ نظام جديد في لبنان للمحاصصة والهيمنة، يجعلنا نترحم على النظام القديم.

من هنا فإن الذين يدافعون عن حقوق المسيحيين ويرفعون لواء الجمهورية، ويحذّرون من الوقوع مجدداً في فخاخ المخادعة، لا يفعلون سوى خداع أنفسهم واللبنانيين، لأنهم مجرد حلفاء ضعاف لمن يريدون تطيير الجمهورية أو نسف البلد، إن لم يستطيعوا تشكيل لبنان وفقاً لمشيئتهم. هكذا فإن الهوس بالحصول على منصب الرئاسة، قد ختم على عقول البعض وعلى سمعهم. فهم لا يسمعون قادة محورهم عندما يعلنون أن أربع عواصم عربية قد سقطت في منطقة نفوذهم، أولاها بيروت، أو عندما يؤكدون أن ايران ولبنان هما جسم واحد، رأسه في طهران وأذرعه في لبنان.

مختصر القول، وفي ما يخص المطلب السياسي، إن انتخاب رئيس للجمهورية، هو المخرج الوحيد الأقل كلفة. لذا لا تكمن المشكلة لدى الحكومة، التي هي النتيجة وليسن السبب. لأن السبب هو أن مجلس النواب يتقاعس عن القيام بمهمته العاجلة والملحّة، التي لا مهمة له سواها بعد شغور منصب الرئاسة: انتخاب رئيس جديد. وليسمح لي فقهاء الدستور بهذا التأويل للمادة المتعلقة بالشغور. من هنا فالمطلب الآن، أن يضغط أهل الحراك على النواب، بحيث يعطون مهلة أسبوع أو اثنين أو ثلاثة، لانتخاب رئيس، وإلا اعتبر المجلس منحلاً، ويعود عندئذٍ للحكومة أن تدعو إلى انتخاب برلمان جديد. هذا هو المخرج الممكن. أما الذين يطالبون بقانون جديد للانتخاب ينصّ على انتخاب الرئيس من الشعب، فهم لا يريدون حلّ المشكلة، سواء أدركوا ذلك أم جهلوه.

الملهاة الدائمة
أعتقد أن تجربة الحوار في لبنان غير مشجعة. مرة أخرى لا نجرّبنّ المجرّب. فالحوارات التي تجري، منذ عقود، في لبنان، بين ممثلي الطوائف أو بين اركان الطبقة السياسية، كانت سلبية أو عقيمة، لم تحلّ مشكلة، بل أرجأت المشكلات لكي تزداد تفاقماً.

هذا مآل الحوار بين رجال الدين، مسيحيين ومسلمين، وفي الأخص بين المسلمين أنفسهم. لعلّي أكرر القول بأنه ينتهي قبل أن يبدأ. لأن كل واحد يتمترس وراء ثوابته أو ينتظر كلمة مرجعيته في الخارج.

لا أريد أن أتطرّق هنا إلى الجانب المسيحي، لأن الطوائف المسيحية باتت قابلة أو قادرة على أن تدير حواراً بنّاءً بينها. وإنما أتوقف عند الجانب الإسلامي الذي يحمل مسؤولية مضاعفة، لأقول بأنه مصدر المشكلة، بدعاته وأحزابه ومنظماته، إذ الكل يشهدون على عجزهم عن إدارة حوارات ناجحة تفضي إلى إيجاد حلول للمشكلات المستعصية والشاهد أن الإسلاميين، الذين قضوا عقوداً، يدعون إلى النهوض والإصلاح، بالتهجم على المنظومة الفكرية الحداثية، قد أخفقوا إخفاقاً ذريعاً، حيث تسلّموا السلطة أو حيث هيمنوا، سواء في تونس ومصر، أو في العراق ولبنان، أو في السودان وايران، فضلاً عن أفعانستان وباكستان.

هكذا منذ صعودهم قبل عقود، يتباهون بأنهم ينتمون إلى خير أمة وأصدق عقيدة، وبأن دينهم الحنيف هو دين الوسطية والتسامح والاعتدال؛ فإذا النتيجة أولاً هي أنهم فجّروا في ما بينهم هذه الحروب الأهلية التي لا سابق لبربريتها، والتي يستهدف مشعلوها تفجير دور العبادة التي لم تعد آمنة. وهي ثانياً أن الجهاد الإرهابي الذي يدينونه، بعدما فاجأهم، هو حصيلة لكتبهم وعقائدهم وأحكامهم. إنهم يستنكرون حرق البشر أحياء، فيما هو تطبيق للنصوص التي تتحدث عن عقوبة قطع الأيدي والأرجل أو سلخ الوجوه وتبديلها. لكنهم يجهلون ديانتهم، أصولاً وفروعاً، إلا إذا كانوا يتسترون على الحقيقة أو يخجلون من الإعتراف بها.

رفع الوصاية
هكذا استمروا عقوداً يشنّون الهجوم على الغرب والحداثة والعلمنة والديموقراطية، فإذا الناس اليوم تعدّت حال الترحم على أيام الاستعمار أو الاستنجاد به لكي يردعنا عن وحشيتنا بعضنا ضد بعض، بل نحن بتنا نلجأ إليه كملاذ ينقذنا من جحيم حياتنا، لنقيم بين أفيائه الحضارية وأجوائه السلمية. فيا لها من مفارقة فاضحة. فأوروبا التي نلجأ إليها قد أحسنت صنع سلامها، بقدر ما تحررت من المنظومات الإيديولوجية والأصولية والشمولية. أما نحن فإننا نصنع فشلنا وحروبنا بقدر ما نعتقد بأن مستقبلنا ينبغي أن يتشكل وفقاً لماضينا وأصولنا وثوابتنا.

فتحية إلى الحبر العظيم بتواضعه وانسانيته البابا فرنسوا الذي لا يتوقف عن الاهتمام بالمسلمين الهاربين من حروب الأهل والأشقاء. وتحية أيضاً إلى السيدة التي لا نظير لها، المستشارة أنجيلا ميركل، لحكمتها ورشدها ومروءتها وحُسن تدبيرها، هي التي أدارت بلدها لتجعله من أغنى البلدان وأقواها، لا بعسكره بل باقتصاده. وكلاهما، البابا والمستشارة، يفضح ما عندنا من دعاةٍ وزعماءٍ ومرشدين يشهدون على قصورهم، بقدر ما قادوا بلدانهم إلى الإفلاس الإقتصادي. فضلاً عن كونهم يسوسون الأمور بغير عقلٍ، يتعاملون مع الآخر بقلب يملأه الحقد، بقدر ما يفكرون بعقلية الثأر والإنتقام، لكي نحصد كل هذه الدماء وكل هذا الدمار. فالأجدى لرجال الدين أن يتّقوا ربّهم ويعودوا إلى رشدهم، لكي ينخرطوا في أعمال المحاسبة عما قدّمت أيديهم من السيئات والشرور.

من هنا إذا كان ثمة مطلب ملحّ، أمام الحراك، في هذا الخصوص، هو رفع وصاية رجال الدين على المجتمع والناس، للعودة إلى مؤسساتهم لإصلاح أمورهم والاشتغال بإعادة بناء ما شوّهوه أو خرّبوه. وأما من أراد الاشتغال بالسياسة، فإنه يصبح كأيّ سياسي معرّضاً للمحاسبة والمناقشة النقدية والعلنية، ولو ساخرة.

أعتقد أن هذا المطلب يحتاج إلى أن يعطى الأهمية التي يستحقها، إذا كنا مع قيام مجتمع مدني وتشكيل وعي وطني عابر للطوائف: الكفّ عن تدليل المؤسسة الدينية وإرجاعها إلى حجمها الطبيعي، بوصفها فاعلية من فاعليات المجتمع لا أكثر. بحيث تكون تحت وصاية الدولة لا فوقها، ويكون القانون الوضعي لا الشرائع الدينية هو الأعلى. وحده ذلك يفتح الباب لقيام المجتمع المدني من جهة، بقدر ما يطمئن المسيحيين من جهة أخرى.

خلُقيات الحوار
الحوار، على جبهة الساسة، ليس أفضل منه في معسكر رجال الدين. فالحوار بين أركان الطبقة السياسية ورموزها لن يصل إلى النتائج المرجوة، سواء في ما يخصّ تشخيص المشكلات أو تركيب الحلول.

فلا يمكن للفاسدين أن يكونوا مصلحين، ولا للمخرّبين أن يشتغلوا بالبناء، كما لا يمكن لمن بنوا سلطتهم وثروتهم على الاستثمار في المجال الطائفي، أياً كانت هويتهم، أن يكونوا مع قيام المجتمع المدني. والأهم لا يمكن لمن يرهن بلده للسياسات الخارجية والحروب الإقليمية أن يجلب له أمناً أو يصنع سلاماً.

من هنا فإن مؤتمر الحوار هو محاولة لإنقاذ الطبقة المفلسة، بالالتفاف على المطالب أو سرقة الشعارات، لتلميع الصورة وتحسين السمعة. وإذا كان للحراك من حسنة، فهو فضحه للساسة الذين، على تناقضهم في المواقف والمذاهب، طالما تآمروا على الناس وتواطأوا ضد مطالبهم وحقوقهم ومصالحهم. لأن آخر ما يهم الواحد منهم هو منصبه وثروته وأمنه، ولو ذهب الآخرون إلى الجحيم، والأحرى القول هذا ما يحيل الحياة في لبنان الى جحيم.

فضيحة الحوار
خلاصة القول إن الحوار بين الساسة والقادة هو تمويه للمشكلة. لأن الحوار يعني أن يتزحزح الواحد عن مركزيته وأن يكسر نرجسيته، بل أن يعترف بخطأه، أو على الأقل بأنه لا يملك كل الحقيقة ولا كل المشروعية. لأن الحقيقة، خصوصاً في المجال السياسي والمجتمعي، هي نتاج تداول وشراكة، لانتاج استئثار وانفراد.

فلا ينجح حوار إذا كان المحاور يفكر بعقلية الإقصاء أو الإتهام للآخر. ولا يثمر نقاش إذا كان المحاور يقول لزميله: "ممنوع أن تذكر اسمي على لسانك". مثل هذا التصرف ينسف الحوار من أساسه. وإذا كنا مع الإفادة من التجارب، فالدرس المستخلص هو أن الأوهام والمثاليات والطوباويات الإيديولوجية ساهمت في تخريب لبنان، كما تساهم في تعطيله وشلّه اليوم الديكتاتوريات والأصوليات العنصرية أو الفاشية، السياسية والدينية والمجتمعية.

إن الحوار يفترض بالمتحاورين أن يسيطروا على أنفسهم، بحيث يتحلى الواحد منهم بالهدوء والتعقل، ويتعوّد على قبول الآخر والإنصات إليه، على سبيل التبادل المغني أو التفاعل المثمر، بحيث يتحول عن موقفه لكي يساهم في تحويله، وعلى النحو الذي يفضي الى خلق الأجواء والأطر التي تهيّئ لإيجاد الحلول للمشكلات العالقة.

هذا الإخفاق المتواصل في تجارب الحوار، هو الذي جعل الحلول أو الإتفاقات تأتي دوماً، ليس من داخل لبنان، بل من المؤتمرات التي عقدت في الخارج في رعاية الدول العربية أو الإقليمية، وكما جرى في مؤتمري الطائف والدوحة. وهذه الفضيحة هي آفة وطنية كبرى، يجدر بمن يفكرون في إعادة بناء لبنان تسليط الضوء عليها لمعالجتها. وحدها المعجزة، أقصد إتفاق اللبنانيين، وبالأخص الموارنة، على شخص الرئيس، هو الذي ينقذ لبنان بقدر ما يحرره من تعطيل الداخل وتدخلات الخارج. مع أن المعجزة ربما فات أوانها، على وقع المحاولات الجارية لإعادة رسم خريطة المشرق العربي، بتقطيع أوصال سوريا، لإقامة دويلة ذات أكثرية سنية عربية، تحاصرها دويلة علوية وثانية كردية وثالثة شيعية في العراق. ولا أنسى دولة إسرائيل.

أنهي بهذه الخلاصات: كسر المحرمات
الأول، أن الحراك الشعبي كسر حاجز الخوف. فلا أحد فوق رأسه خيمة من قداسة أو عصمة أو حصانة دينية أو سياسية. من هنا فإن شباب الحراك لم يستبعدوا أحداً من النقد والمحاسبة. فالكل مسؤولون، بلا إستثناء. وإلا فهم يقومون بتغطية ما جرى من فسادٍ وخراب. من الحاكم الجالس على كرسيه خائفاً، أو المسؤول القابض على الأمر أو من يظن أنه كذلك، إلى الناشط نفسه في الميدان، بل إلى من يعتبر نفسه الضحية. لأن الضحية سرعان ما يتحول إلى جلاد، كما تشهد التجارب. وبالعكس، فمن ظننا أنهم كانوا الظالمين، يبدون الأكثر إنسانيةً بسبب أعمال المحاسبة والمراجعة للذات، كما تشهد على ذلك ألمانيا التي هي الأولى اليوم في ما يخص استقبال المهاجرين ورعايتهم.

الثاني، أنه يفتح الإمكان لكسر المحرمات الإيديولوجية والسياسية، التي سادت في المرحلة السابقة لكي يصل لبنان إلى ما وصل إليه من الشلل والاهتراء، بحيث تتشكل مقاومة لبنانية حقيقية وفاعلة، والأحرى القول "قوة" لبنانية عابرة للطوائف متحررة من التبعية للخارج. أقول قوة لا مقاومة، لأن النسخ السابقة من المقاومة قد استُهلكت او احترقت، بقدر ما جرى توظيفها للدفاع عن أنظمة الفساد والإستبداد، أو تسخيرها لمشاريع أغرقت المجتمعات العربية في أتون حروب عادت وبالاً وخسراناً على الجميع، وأولهم مشعلوها والنافخون في إوارها، لكي يصبحوا حطباً لها. فهل ثمة من يعقل أو يفقه؟

لا يعني ذلك التخلي عن العمل المشترك. ما دامت المصائر متشابكة، وخصوصاً أن الخطر واحد. وإنما يعني العمل من أجل بناء لبنان جديد، كبلد آمن، ومستقر، وليبيرالي مفتوح، إذ في ذلك فائدة له وللعرب. أما تحويله، وكما جرى منذ عقود، إلى مسرح للصراعات أو إلى ساحة مفتوحة ومستباحة، لكل صاحب مشروع أو متدخّل أو مشعوذ أو إرهابي، فإنه يشكّل ضرراً بالغاً عليه وعلى العرب.

الملاذ والبؤرة
الثالث، أن ما يجري في أي بلد عربي يترك أثره في سواه، بعدما باتت المصائر والمصالح متشابكة ومتداخلة. من هنا فإن مكافحة الفساد في الداخل لا تنفصل عن مكافحة الفساد في الخارج، بل هي نوع من العمل العربي المشترك. وأعني بذلك أن لا يستقبل لبنان الفاسدين العرب الهاربين من محاسبة شعوبهم.

بالطبع إن لبنان البد المنفتح، قد شكل ولا يزال يشكّل، بالنسبة للعرب، الملاذ والملجأ أو المقر والمنبر، للمثقف والكاتب والإعلامي، أو للهارب من الظلم والإستبداد أو من جحيم الحرب المشتعلة في بلده، فضلاً عن محب لبنان الذي يريد أن يقيم فيه، أو يمضي فرصته بين ربوعه. لكن ذلك لا يعني أن يكون لبنان ملجأ أو ملاذاً للسياسي الفاسد الذي سرق خزينة دولته، أو للحاكم المجرم في حق شعبه، أو للداعية الذي يأتي إلى لبنان، لكي يستغل أجواء الحرية فيه، أو لكي يطلب الحماية غير المشروعة على أرضه، وسوى ذلك من النماذج التي يأتي أصحابها إلى لبنان، لكي يُساهموا في تخريبه بعدما ساهموا في تخريب بلدانهم. وإلا تحوّل لبنان من ملاذ آمن ومنبر حرّ إلى بؤرة للفساد أو محمية لشذاذ الآفاق.

الرابع، أن الحراك الجاري في لبنان، وفي العراق، يعني أن تعثر الثورات العربية ليس نهاية المطاف. فلن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، كما يريد فقهاء الظلام وساسة الفساد. بالطبع إن ثمن التغيير باهظ لأن المجتمعات العربية، عجزت، طوال عقود، عن إصلاح احوالها وتدبر شؤونها، بصورة سوية، سلمية، ديموقراطية، مدنية، حتى تراكمت المشكلات واستعصت الأزمات على الحل، فحصل الانفجار. لذا فإن الحدث اللبناني، شأنه شأن الحدث العراقي، ينتج أبواب الأمل من جديد، ولكن بقدر ما يستقطب الحراك أوسع الفئات من الناس، بتركيزه على الملحّ والعاجل، أو على الممكن والراهن، من المطالب والقضايا في مختلف الشؤون والمجالات، وهذا هو أحد دروس تعثّر الثورات العربية.

هل أنا أقع في ما أحذّر منه بطرح مطالب مستحيلة؟
قد تكون بعض المطالب غير ملحة وغير ممكنة، كقضية الإقامة في لبنان للعربي أو الأجنبي، مع ذلك لا شيء يمنع تسليط الضوء عليها منذ الآن، بوصفها واحدة من المشكلات التي عانى منها لبنان، لكي نحسن التغلب عليها، وهي أن فائض الحرية فيه، والذي هو إحدى مزاياه، كثيراً ما استغل لإنتهاك حدوده وقوانينه والعبث بأمنه واستقراراه.
ثم إن الحراك بما يفتحه من إمكان، قد يذلل الصعوبات ويفكك الممتنعات. أليس الحراك، الذي فاجأنا بموجاته وقواه وأساليبه، يقدّم هو نفسه مثلاً على أن المستحيل وغير المتوقع، قد يصبح ممكناً ومتوقعاً. وقد يكون بنّاءً ومثمراً إذا أحسنّا عمل الفهم والتشخيص أو التحويل والتركيب أو التقدير والتدبير.