"نريد وطناً حقيقياً لا طيف وطن"! بهذه الكلمات الخارجة من أعماق الوجدان الوطني حدد عمر فاخوري، أديب "الحقيقة اللبنانية"، وأحد رموز اليسار في الفكر والأدب، جوهر المهمات الوطنية التي رأى أن على القوى الوطنية والديموقراطية اللبنانية، وفي مقدمها قوى اليسار، أن تعتمدها برنامجاً وطنياً وديموقراطياً علمانياً لها، بدءاً من تلك اللحظة التاريخية التأسيسية التي كان لبنان ينتقل فيها من مرحلة الانتداب الفرنسي إلى رحاب الحرية والاستقلال. كانت لحظة تاريخية مفصلية بامتياز، لكنها صعبة وحافلة بالخلاف وبالاختلاف، المضمر منهما والمعلن، حول "الصيغة" الجامعة التي كان يراد لها أن تحدد طبيعة لبنان السيد الحر المستقل، والقائمة على "التوازن الضروري" باسم "العيش المشترك" بين المكوّنات اللبنانية المتعددة والمتنوعة. لقد اختصرت القوى السياسية المقررة من أبطال الاستقلال، تلك المكوّنات بالطائفية منها، تحديداً وحصراً، في حين أنها كانت، ولا تزال، أوسع وأشمل وأكثر صحةً وغنى وتعبيراً عن الشخصية اللبنانية ذات السمات المتعددة والمتكونة عبر تاريخ لبنان القديم والحديث.
غنيّ عن التأكيد أن المسيحية والإسلام، في لبنان، في تطورهما وفي تعدد الثقافات داخل كل منهما، من المكوّنات التي تتميّز بها الشخصية اللبنانية، لكنهما ليسا المكوّن الوحيد، كما جرى التعامل معهما. لقد وقعت القوى السياسية من أبطال الاستقلال، التي صاغت "الميثاق الوطني" كأساس لما سميّ بـ"الصيغة اللبنانية"، في ما أعتبره "خطأ" فادحاً، ربما من دون أن تدرك مفاعيل ذلك الخطأ التي لم تتأخر في الظهور منذ الأعوام الأولى للاستقلال. وظلت تلك المفاعيل تتفاقم بأشكال مختلفة حتى أيامنا هذه. يتمثل الخطأ في المحاصصة الطائفية، التي باسمها أعطى أبطالُ الاستقلال المسيحيين امتيازات خاصة في دولة الاستقلال ومؤسساتها. في حين كان يفترض التعامل مع المسيحيين خصوصاً، ومع المسلمين أيضاً، استناداً إلى الأدوار الكبيرة التي تميّز بها رواد النهضة العربية الكبار، ومعظمهم من المسيحيين، الذين أسسوا بتلك الأدوار للبنان الحديث تاريخاً عريقاً في الحضارة والتقدم، تجلّى في الفكر التنويري. وكان عدد من أولئك الرواد الكبار قد اختاروا، منذ وقت مبكر، العلمانية والاشتراكية مذهباً لهم، متأثرين في ذلك بما كان يجري من تحولات كبرى في أوروبا الحديثة، ومتأثرين على وجه الخصوص بأفكار الثورة الفرنسية وبالأفكار الاشتراكية. هذا الخطأ المتمثل في المحاصصة الطائفية هو الذي حوّل تاريخ لبنان ما بعد الاستقلال إلى تاريخ صراعات وانقسامات على أساس طائفي ومذهبي، وإلى حروب أهلية وتدخلات خارجية، دمرنا فيها نحن اللبنانيين وطننا الجميل الخالد. ودمرنا على وجه الخصوص، المعنى الذي تشير إليه وتؤكده السمات المتعددة للشخصية اللبنانية، بمكوّناتها المتنوعة، الدينية والإثنية والثقافية والحضارية، وبأنماط حياتها الخلاّقة. وهي التي جعلت لبنان منذ وقت مبكر ملتقى الثقافات والحضارات، وأعطته المعنى الذي يعود إليه، وقد بددناه نحن اللبنانيين في صراعاتنا.
أستذكر اليوم، من قلب المعاناة والعذابات والخوف والقلق مما يواجه وطننا من أخطار تهدده من داخله ومن خارج حدوده، ذلك الحدث التاريخي المرتبط بولادة دولة الاستقلال في الشروط الآنف ذكرها، وتلك الكلمات ودلالاتها التي أطلقها عمر فاخوري. وأتساءل بصدق: ألم يحن الوقت، بعد هذا الخراب العظيم كله، لكي ننهض نحن اللبنانيين مما نحن فيه من عبث متواصل بوطننا، ونستعيد وعينا الوطني، ونكفّ عن صراعاتنا ومشاريعنا الوهمية فيها، وعن استقوائنا بالخارج من كل الجهات والاتجاهات؟ ألم يحن الوقت، لكي ندخل بوعي وطني كامل في عملية إعادة بناء وطننا الجميل، وطن جميع اللبنانيين، على قاعدة الاحترام الكامل لمكوّناته الوطنية المتعددة، بسماتها التي تعبّر عن الشخصية اللبنانية؟ ألم يحن الوقت لكي تدرك الأجيال الجديدة أن عليها أن تقوم بالدور الجديد المغاير لأدوار آبائهم وأجدادهم، بإحداث التغيير الضروري في بنى الدولة ومؤسساتها ووظائفها، تحقيقاً للتغيير الديموقراطي الذي يعيد إلى لبنان موقعه التاريخي كملتقى حضارات وثقافات، بكل ما يعني ذلك من مظاهر التقدم في مجالاته كافة، حيث تحترم حرية المواطنين وكراماتهم في كل المواقع؟
انطلاقاً من هذه الالتفاتة السريعة إلى الماضي الغابر، الذي نتحمل نحن اليسار القديم قسطنا من المسؤولية عما جرى فيه من آلام ومآسٍ وكوارث لوطننا ولشعبنا، سأحاول الإجابة عن الأسئلة الآنفة الذكر وأتقدم بقراءتي لليسار اللبناني الجديد الذي أدعو إلى قيامه كحاجة موضوعية لبلدنا في هذه المرحلة الحرجة التي هو فيها. وأضع هذه القراءة أمام اليساريين أينما كانوا وأين هم الآن، ولا سيما من جيل الشباب، سواء في الوطن أم في المغتربات، لكي يقرروا بمحض إرادتهم أفراداً ومجموعات مستقبل يسارهم، ويأخذوا من تجربتنا ومن خلاصاتنا وخلاصاتهم منها ما يرونه صالحاً من وجهة نظرهم، ويعمدوا إلى بناء اليسار الجديد في الشروط التاريخية الجديدة، ويعيدوا إلى اليسار دوره الأصلي في حياة الوطن، ويتحملوا مسؤولياتهم في النضال الذي حان وقته من أجل صياغة لبنان الغد الذي نريد، في إطار نظام ديموقراطي مدني تعددي، بعد تحريره مما هو غارق ومغرق فيه!
اليسار الجديد وشروط ولادته أود أن أؤكد ما هو مؤكد موضوعيا، أن أي جديد في حياة البشر لا يولد من عدم. بل هو يولد دائماً من رحم القديم ويتجاوزه في الشروط التاريخية الجديدة التي تكون قد نشأت بفعل التطورات في شتى الاتجاهات، وبفعل الاكتشافات العلمية وطرائق استخدامها، وبفعل الحوادث السابقة والدروس المستخلصة من التجارب فيها التي تكون قد قدمتها للجديد القادم. وتتمّ هذه الولادة لليسار الجديد مثل كل شيء، إما في شكل طبيعي وإما في عملية قيصرية. وقد دلّت التجارب أن هذه الولادة للجديد لا تتمّ في الأغلب إلا في عملية قيصرية. أتحدث هنا بالتحديد عن مشاريع التغيير الديموقراطية بأسمائها المختلفة، ولا سيما المشروع الاشتراكي، لبنانياً وأممياً، وعن الأفكار المتصلة بها، والأفكار المستقلة عنها قديماً وحديثاً. وإذ أشعر اليوم بالمرارة، أسوةً بالملايين في العالم وفي بلدنا، لأن الذين ائتمنوا على المشروع الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وفي بلدان التجربة الاشتراكية الأخرى بنموذجها السوفياتي قد بددوه وقادوه إلى الانهيار بعد ثلاثة أرباع القرن بسبب الخلل البنيوي الذي رافق التجربة منذ البدايات، فإنني أعترف بأننا نحن اليساريين اللبنانيين من مواقعنا المختلفة نتحمل قسطنا من المسؤولية عن انهيار مشروعنا الوطني، برغم بعض المحاولات التي قمنا بها نحن شيوعيي الستينات من القرن الماضي لتحرير مشروعنا الاشتراكي مما كان سائداً ومعمماً من خلل في التجربة الأممية. وهو ما تمثل على وجه الخصوص في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني الذي عقد في صيف العام 1968 في أعقاب ثورة التجديد التي قادها الجيل الثاني في قيادة الحزب الذي كنت واحداً منهم، والتي اختلفنا فيها مع القيادة السوفياتية، وحققنا بقرار جماعي من أكثرية الشيوعيين، ما كنا قد وضعناه هدفاً لتلك الثورة. ففي ذلك المؤتمر بالذات، ثم في المؤتمر الثالث الذي عقد في مطلع العام 1972، أجرينا عملية تجديد في فكر الحزب وسياساته لإعطائه طابعاً وطنياً لبنانياً مستقلاً في شؤونه الوطنية اللبنانية عن الاتحاد السوفياتي. إلا أننا، يا للأسف، سرعان ما بددنا في سياساتنا اللاحقة ذلك الانجاز التاريخي في المؤتمرين المشار إليهما عندما دخلنا من دون وعي في الحرب الأهلية!
لكنني لا أستطيع، وأنا أتحدث عن ذلك التاريخ المرتبط بالتجربة الاشتراكية الذي انتهى بانهيار التجربة، إلا أن أعلن اعتزازي بالمجيد مما ارتبط بذلك التاريخ من حوادث وأسماء ومواقف. وهو ما تمثل بالكثير من الإنجازات والنضالات والأسماء الكبيرة في السياسة والفكر والأدب والفن والعلوم على اختلاف ميادينها، وبالكثير من الشهداء على جبهات النضال السياسي والاجتماعي والفكري، أممياً وعربياً ولبنانياً.
من هذا التاريخ بالذات، وانطلاقاً من المجيد فيه، ومن الدروس التي قدمتها لنا تجاربنا فيه، في الصواب وفي الخطأ، سأقدم قراءتي ليسارنا اللبناني الجديد، استناداً إلى اقتناع جازم عندي بأن الظروف الموضوعية في بلادنا باتت تحتاج إلى قيامه، لكن في شروط مختلفة بالكامل عن الشروط التي نشأ فيها وتأسس اليسار القديم. فما هي سمات هذا اليسار الجديد التي يختلف فيها عن اليسار القديم؟
المرتكزات الفكرية لليسار الجديد أول ما أود التوقف عنده في تحديد ملامح هذا اليسار وسماته، في صورته الجديدة هو الاسم الذي أطلقته عليه منذ البداية، اسم اليسار. ذلك أن كلمة يسار هي أكثر ملاءمة للجمع وللتجميع في إطار من التنوع والتعدد اللذين يشكلان شرطاً ضرورياً من شروط اليسار الجديد ومن شروط الانتظام في صفوفه. لكنني سأظل، في دعوتي إلى إقامة يسار جديد في لبنان، أتذكر ماركس وأعود إليه وإلى القيم التي دعا إليها وبشر بها. في مقدمة تلك القيم، ما أعتبره جوهر أفكاره وجوهر مشروعه لتغيير العالم. وتتلخص هذه القيم في ثلاثة أمور جوهرية، الأول يتعلق بالموقف من الإنسان الفرد أساساً والإنسان الجماعة كجمع لا يستقيم إلا إذا قام على أنه جمع لأفراد أحرار. فالإنسان في فكر ماركس هو القيمة الأصلية في الوجود. حريته وحقوقه وكرامته وعيشه الكريم والنضال الدائم لتحريره من كل أنواع العبوديات، هي الهدف الأسمى لكل نضال عبر التاريخ، باسم الإنسانية على وجه العموم، وباسم الاشتراكية على وجه التحديد. الأمر الثاني، أن النضال من أجل تحقيق الأمر الأول إنما يقوم، بصيغ ووسائل وأدوات ووسائط شتى، على رفع الظلم والقهر والاستعباد والاستغلال والاستبداد عن الإنسان، سواء في القوانين التي تضعها الأنظمة الديموقراطية بأنواعها المختلفة، أم في القوانين التعسفية التي تسنّها القوى الاستبدادية لتعظيم سيطرتها وهيمنتها على الدولة والمجتمع، أم في شريعة الغاب التي نشهد نماذج لها في أيامنا هذه بأسماء هجينة غريبة تحتمي باسم الإسلام وتتناقض في توحشها مع قيمه الروحية، قيم الحرية والتسامح، من مثل "القاعدة" و"داعش" و"النصرة" وسواها. الأمر الثالث يتمثل في النضال الدائم لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية في مستوياتها التي يحددها مستوى التطور، ويحددها مستوى النضال لتحقيق الأمرين السابقين. بالاستناد إلى هذه الأمور الثلاثة يصبح الهدف المبتغى من تأسيس اليسار اللبناني الجديد والنضال الذي على هذا اليسار أن يخوضه لتحقيق الأمور الثلاثة في ظروف لبنان الراهنة، هو إقامة نظام ديموقراطي مدني تعددي ودولة ديموقراطية مدنية حديثة، ومجتمع ديموقراطي تعددي يشارك الدولة في بناء ذلك النظام الديموقراطي الذي تسود فيه الحرية للإنسان الفرد وللإنسان الجماعة ويتحقق فيه التقدم والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية في مستوياتها وصيغها الواقعية.
هكذا يكون اليسار الجديد أميناً لأفكار ماركس الأساسية، ويكون قادراً في الآن ذاته على تحرير نفسه وتحرير سياساته من أفكار أخرى لماركس لم تعد صالحة للزمن الذي نحن فيه. بهذا التحرر من الأفكار القديمة يكون اليسار الجديد أميناً لماركس ذاته الذي كان يعتبر أن للأفكار، كل الأفكار، تاريخها المختلف من زمن إلى آخر. معروف أن ماركس قد دعا بحزم إلى عدم تحويل أفكاره إلى عقيدة. فالأفكار ليست في نظره سوى مرشد للعمل. لكن قادة التجربة الاشتراكية، بدءاً من الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى كل الأحزاب الشيوعية في السلطة وخارجها، لم يحترموا فكرة ماركس هذه. إذ حوّلوا أفكاره إلى "عقيدة" أشبه بالعقيدة الدينية. وأعتبر، باسمي، كيساري قديم ومعاصر، وباسم اليسار الجديد الذي أدعو إلى قيامه، أن للفكر دوراً مهماً في كل ما يتصل بنشاط يسارنا. وأدعو هذا اليسار إلى العمل المتواصل لصياغة هذا الفكر بعقلانية وواقعية ولتطويره وتحديثه، لكي يظلّ أميناً للشروط التاريخية الجديدة.
عن الطبقة العاملة بين ماركس وبليخانوف إن هذه المرتكزات الفكرية التي أستند في تقديمها إلى أفكار ماركس، وأنا أتجاوزه وأتجاوزها، هي المرتكزات الواقعية لليسار الجديد الذي أدعو إلى تأسيسه كحاجة موضوعية في لبنان، في هذا المفترق الكبير من تاريخه. لذلك، فإن القاعدة الاجتماعية لهذا اليسار الجديد ستكون في الضرورة أوسع وأشمل مما كانت عليه في مشروع ماركس القديم، الذي كان يعتبر أن الطبقة العاملة هي وحدها حصراً حاملة مشروع التغيير باسم الاشتراكية. ففي ظروف لبنان الراهنة، لم تعد الطبقة العاملة، لأسباب موضوعية شتى، تحمل المعنى والموقع والمهمات التي كانت لها حصراً في مشروع ماركس. وأسمح لنفسي هنا بالاستشهاد بنص لكبير الفلاسفة الماركسيين الروس جورج بليخانوف، اقتطعته من وصيته السياسية التي نشرها قبيل وفاته في العام 1918: "أنا، الآن، كماركسي ديالكتيكي، سأسمح لنفسي لبعض الوقت بأن أكون "ناقداً" لماركس. ومن دون أن أتخلّى عن أي شيء كتبته في الماضي أو أتبرّأ منه، سأفصح عن "حماقة" لا تغتفر من وجهة نظر البلاشفة. وأعتقد أن وجودي بين الماركسيين لسنوات طويلة يمنحني الحق في ذلك. أما لماذا قمت بوضع كلمة "ناقد" بين قوسين، فهذا ما سيصبح واضحاً في ما بعد. فخلال الأشهر الأخيرة، التي أظهرت بصراحتها أن أيامي قد أصبحت معدودة، أمعنت التفكير كثيراً. وفي النهاية قررت صياغة ما كان يقلقني منذ زمن بعيد بحداثته، ويحيّرني لعدم وجود إثباتات. وإني لأعتقد بأن ديكتاتورية الطبقة العاملة وفق مفهوم ماركس لن تتحق أبداً، لا الآن ولا في المستقبل. وإليكم السبب. فبعد تغلغل آلات الانتاج الجديدة المعقدة المصممة على العمل بالكهرباء، وترسّخها، وعلى ضوء إنجازات العلم التالية، سوف تتغير التركيبة الطبقية للمجتمع، ليس في صالح البروليتاريا، بل ستصبح البروليتاريا نفسها طبقة أخرى. وسيبدأ تعداد البروليتاريا، تلك التي ليس لديها ما تفقده، في التقلص، ومن ثم ستحتل الأنتليجنسيا المركز الأول من حيث التعداد ومن حيث الدور في عملية الانتاج. لم يقم أحد بعد بالإشارة إلى هذا الإمكان، على الرغم من أن الإحصاءات الموضوعية تتحدث عن أن صفوف الأنتليجنسيا منذ بداية القرن العشرين تتزايد في علاقة تناسبية أسرع من صفوف العمال. وعلى الرغم من أن الأنتليجنسيا تبقى، إلى وقتنا هذا، مجرد "خادمة" للبورجوازية، إلا أنها في الوقت نفسه تبقى أيضاً تلك الطبقة المميزة التي تمتلك مهمة تاريخية لها خصوصيتها. فالأنتليجنسيا، باعتبارها أكثر طبقات المجتمع تعليماً وثقافة، مكلفة حمل مشعل التنوير والأفكار الإنسانية والتقدمية إلى الجماهير. إنها شرف الأمة وضميرها وعقلها. وأنا لا أشك إطلاقاً بأنه في أقرب وقت ممكن سوف تتحوّل الأنتليجنسيا من "خادمة" للبورجوازية إلى طبقة لها خصوصيتها وتأثيرها بشكل خطير من حيث تعدادها الذي ينمو باضطراد، ومن حيث دورها الذي سيتركز أثناء عملية الانتاج في إيصال قوى الإنتاج إلى حد الكمال: ابتكار آلات جديدة، وأدوات جديدة، وتكنولوجيات جديدة، وخلق عامل رفيع التعليم والثقافة".
القاعدة الاجتماعية لليسار الجديد وبرنامج النضال باسمها وشروطه لكن، برغم أهمية ما جاء في حديث بليخانوف والتحولات الموضوعية في عملية الانتاج التي أشار إليها، ستظل الطبقة العاملة بمستويات وجودها جزءاً أساسياً من القاعدة الاجتماعية لليسار الجديد ولمشروعه للتغيير الديموقراطي. وهي قاعدة تشمل فئات الأجراء من كل الأنواع، إضافة إلى الفئات الصغيرة والوسطى من المنتجين، وإلى المثقفين في ميادين إبداعاتهم المختلفة، وإلى الشباب في أماكن دراستهم في المراحل الاعدادية والجامعية وفي أماكن عملهم، وإلى جمهور المهمشين على اختلاف فئاتهم الذين يزداد حجمهم على الدوام بفعل الواقع الراهن، وتزداد أخطار تحويلهم إلى قاعدة للتطرف والإرهاب وسوى ذلك من أخطار، إذا لم تجر محاولات إدماجهم في العمل السياسي دفاعاً عن حقوقهم في إطار اليسار وفي نشاطه المتعدد. لكن اليسار الجديد، صاحب هذا المشروع وصاحب هذه القاعدة الاجتماعية الواسعة مدعوّ، في ظروف لبنان البالغة التعقيد، إلى ممارسة الدور الذي يعود إليه في قيادة الحركة الشعبية وفي صفوفها، من أجل أن تستقيم الدولة ومؤسساتها، أولاً في انتخاب رئيس للبلاد ديموقراطياً وفي انتخاب مجلس نواب جديد على أساس قانون انتخاب ديموقراطي يشارك المجتمع المدني في صياغته، حتى لا يبقى انتخاب النواب رهن إرادة أمراء الطوائف الحرصاء دائماً على استمرار المحاصصة الطائفية التي لا تزال تنتج الطبقة السياسية ذاتها. فتلك هي المهمة الأولى التي تجنّب البلاد الوقوع في الفوضى بفعل الفراغ الرئاسي والشلل الذي يطال مجلس النواب والحكومة. على هذا اليسار صاحب هذا المشروع أن يعمل لوضع دراسات واقتراحات تتصل بمختلف القضايا التي تعاني منها البلاد من كهرباء وماء وبيئة (نفايات ومقالع وكسارات وأحراج ومياه أنهر وشواطئ بحرية) وإسكان وتعليم وأوضاع اقتصادية، وسوى ذلك مما يتصل بالبيئة بالمعنى الوطني لها وبمجمل القضايا ذات الصلة بحياة الوطن والمواطنين، والنضال بالوسائل الديموقراطية لتحقيق هذه المشاريع والمطالب والحقوق. على أن تحترم في هذا النضال الواقعية والمرحلية. أدعو هذا اليسار، في هذا الإطار وفي مختلف القضايا الوطنية الكبرى، أن يكون حاضراً بعقلانية وواقعية هما الأساس الدائم لنظرته إلى الأمور، لعقد تحالفات ظرفية أو بعيدة المدى حول مهمات وقضايا ذات طابع وطني سياسياً واجتماعياً، وذات صلة بالدفاع عن استقلال لبنان وسيادته، وذات صلة بدعم الدولة عبر مؤسساتها العسكرية والأمنية في حماية الداخل وحماية الحدود عندما تهددها الأخطار من شتى الجهات والاتجاهات. فالتحالفات هي من شروط العمل السياسي بالنسبة لليسار مثلما هي بالنسبة لكل القوى السياسية من شتى الاتجاهات عندنا وعند سوانا في البلدان الأخرى. هكذا كانت عليه الأمور في الأزمنة السابقة، وهكذا هي اليوم عندنا في لبنان في شكل أكثر تحديداً وضرورة، بالنظر للتعقيدات التي تشكل سمة الوضع الراهن في لبنان. لكن اختيار الظرف والموضوع والقضية التي تتطلبها التحالفات موضوعياً، بنوعيها المشار إليهما، إنما يحتاج على الدوام إلى دراسة دقيقة وواقعية من قيادة اليسار الجديد، مشروطة على الدوام بالحفاظ على استقلاليته. بل إن على اليسار الجديد أن يكون دقيقاً وحذراَ، وأن يتمتع بقدر كبير من المسؤولية الوطنية والأخلاقية في تعامله مع الذين يختلف معهم ومع خياراتهم. عليه أن يحترم خياراتهم حتى في أكثر المواقف الوطنية دقة وحساسية. انطلاقاً من هذا الاحترام لخياراتهم يستطيع اليسار أن يمارس حقه في الاختلاف معهم حتى لو بلغ الاختلاف أعلى مستوياته. ففي سياسة واقعية مرنة ومسؤولة كهذه، يكون اليسار الجديد قادراً على أن يُجري مع هؤلاء الذين يختلف معهم، من موقع الاستقلالية ومن موقع الخلاف والاختلاف، حوارات يهدف من ورائها للوصول إلى ما يمكن تحقيقه من اتفاقات معينة ولو في حدودها الدنيا. في مثل هذه السياسة بالذات يصبح اليسار الجديد قادراً على لعب دور وطني كبير في خدمة الوطن اللبناني في هذه الظروف الصعبة التي يجتازها.
لكن على اليسار الجديد، وهو يوسع قاعدة نشاطه السياسي مع من يتحالف معهم، من موقع الاتفاق والخلاف والاختلاف، أن يبقى أميناً في الأساس لقاعدته الاجتماعية التي تشكل أساس قوته ومنعته، وأساس صدقيته تجاه جمهوره. عليه أن يوازن في سياساته بدقة بين الهم الوطني العام والمطالب الأساسية لجمهوره. أهمية هذا "التوازن"، أنه يجعل اليسار الجديد حاملاً في سياساته ونضالاته باسم المشروع الديموقراطي للتغيير، هموم الوطن والمواطنين كافة. يهيئه هذا "التوازن" ليكون صاحب دور كبير في حياة البلاد. لكن الشرط الضروري لهذا "التوازن" الذي أشير إليه وأؤكده هو أن يعطي اليسار الأولوية في نضاله للحقوق الطبيعية لجمهوره. وهي تتمثل في الأمور الآتية: 1- سلم متحرك للأجور من أجل تأمين الحد الأدنى الضروري من العيش الكريم للعمال والأجراء. 2- ضمان الشيخوخة لكل العاملين في القطاعين العام والخاص. 3- بطاقة صحية لكل ذوي الدخل المحدود. 4- سياسة إسكانية تؤمّن لذوي الدخل المحدود الحق في سكن طبيعي لائق. هذا ما يتمثل أولاً في تعديل قانون الإيجارات الحالي في صيغة تؤمّن العدالة لكل من المؤجر والمستأجر، وإنشاء مساكن شعبية في ضواحي العاصمة والمدن اللبنانية المختلفة. 5- تأمين بطاقة تموينية بأسعار مخفضة أو ما يعادلها من أشكال دعم للفئات المهمشة وللعاطلين عن العمل واتخاذ قرار حاسم بمنع التسول والمتاجرة بالمتسولين. 6- تعزيز المدارس الرسمية بمراحلها الثلاث، مناهج وأساتذة وأبنية ومستلزماتها، وجعل التعليم في هذه المراحل مجانياً وإلزامياً. 7- وضع خطة لإصلاح الجامعة اللبنانية وتحريرها من التدخلات السياسية من كل الأنواع التي شوّهت وظيفتها الوطنية التي أنشئت من أجلها وجعلها أمينة لتلك الوظيفة.
هذه الأمور بمستوياتها المختلفة التي هي حق لأصحابها من العاملين ومن ذوي الدخل المحدود، تتطلب من اليسار الجديد أن يعمل بكل طاقاته من أجل إعادة بناء النقابات العمالية وتحريرها من الذين استولوا عليها باسم القوى الطائفية وتفعيل دورها ودور المنظمات الشبيهة بها في خدمة العاملين والأجراء، وجعلهم ينضوون في صفوفها ويعتمدون عليها في النضال لتحقيق مطالبهم في شتى المجالات. طبيعي في هذا المجال أن يتمّ احترام استقلالية هذه النقابات والمؤسسات الشبيهة بها عن جميع الأحزاب السياسية بما في ذلك عن اليسار الجديد ذاته.
استناداً إلى هذا البرنامج الذي تتلخص فيه حقوق هذا الجمهور العريض لليسار، يمكن اليسار الجديد أن يعمل على تجنيد هذا الجمهور في النضال من أجل القضايا الوطنية الكبرى، وجعله ينظر إليه، أي اليسار، باعتباره الممثل الحقيقي لمصالحه وحقوقه، والمعبّر الحقيقي عن مشروع التغيير الديموقراطي باسمه. لكن على اليسار الجديد أن يوسع نشاطه داخل المجتمع ليطال جميع مؤسساته، نقابات المهن الحرة ومؤسسات المجتمع المدني على اختلاف ميادين نشاطها والمؤسسات الثقافية والاجتماعية ومراكز الأبحاث العلمية والاقتصادية والاجتماعية. من شأن حضور اليسار بصيغ مختلفة في هذه المؤسسات، أن يعمّق دوره في المجتمع لكي يساهم مع القوى السياسية والاجتماعية والثقافية في تحويل المجتمع بالتدريج إلى شريك حقيقي للدولة في كل ما يتعلّق بمرافق الحياة في البلاد.
التغيير الديموقراطي يبدأ بتطبيق اتفاق الطائف في تقديري أن المهمة الأولى والملحّة التي على اليسار الجديد أن يضعها في رأس مهماته، ولا سيما في ظروف لبنان الراهنة، هي العمل مع سائر القوى السياسية وممثلي المجتمع المدني على بناء الدولة المدنية الحديثة، دولة الحق والقانون والمواطنة، دولة المؤسسات الديموقراطية، دولة الرعاية الاجتماعية المنشودة. يشكل "اتفاق الطائف" الأساس الواقعي لتحقيق تلك المهمة. لكن تطبيقه بعناية ودقة بنداً بنداً، هو الذي يشكل الأساس لأي مرحلة لاحقة تفرضها الضرورة تحسيناً وتطويراً له في الاتجاه الذي يقود بالتدريج إلى إلغاء الطائفية في مؤسسات الدولة وإلغاء المحاصصة باسمها وإلغائها من تعامل اللبنانيين بعضهم مع بعض في الاتفاق وفي الاختلاف. أول ما ينبغي العمل على تحقيقه من بنود الطائف، إنشاء مجلس الشيوخ الذي تتمثل فيه الطوائف جميعها وفق قانون يحدد لكل طائفة حصتها. يتمّ انتخاب أعضائه مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. من شأن قيام مجلس الشيوخ هذا أن يهيئ الشروط بالتدريج لانتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي. الهدف المبتغى من ذلك كله، هو الوصول إلى الدولة المدنية القائمة على الفصل بين الدين والدولة. الغاية الأولى من هذا الفصل هي تحرير الدين مما تقحمه فيه المؤسسات الدينية وأمراء الطوائف في ما ليس من شأنه، وتحملّه النتائج المترتبة على ذلك. وهي أمور تسيء إلى الدين وإلى قيمه. أما الغاية الثانية فهي تحرير الدولة من تلك الأدوار التي تعطى للدين باسم المؤسسات الدينية وأمراء الطوائف نقيضاً لقيمه الروحية.
في تقديري أن تطبيق "اتفاق الطائف" على الوجه الآنف الذكر إنما يتطلب في الآن ذاته، استكمالاً للتحسينات المطلوبة في النظام، تطبيق اللامركزية الإدارية من خلال إنشاء مجالس محلية منتخبة وفق القانون الديموقراطي الذي يتمّ انتخاب مجلس النواب على أساسه. على أن يترافق هذا القانون مع إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية يؤمّن للشباب حقوقهم في اختيار أنماط حياتهم وطرائق تأسيس أسرهم.
الوضع الإقليمي وانعكاساته السياسية على لبنان لكن علينا أن نعترف بأن هذه المهمة الوطنية الكبرى التي حان وقت جعلها مهمة أولى أمام اللبنانيين، لا تزال تواجه صعوبات كبرى يعبّر عنها الواقع القائم في البلاد. فالتداخل بين الوضعين اللبناني والإقليمي الذي يستمر منذ الحرب الأهلية عندنا والذي استكملته الوصاية السورية، وفاقمته النتائج الكارثية للحرب الأهلية في سوريا، هو الذي جعل دولتنا ومؤسساتها تترهل وتفقد أدوارها، وجعل مرافق الحياة جميعها من دون استثناء في أسوأ ما يمكن أن تكون عليه الحال في أي زمان ومكان. إن هذا التداخل وتبعاته ونتائجه الكارثية على لبنان وعلى حياة اللبنانيين، هو الذي يشكل الصعوبة الكبرى التي أشير إليها والتي حالت ولا تزال تحول دون قيامة لبنان وطناً ودولة ومؤسسات، ودون تحريره مما هو فيه من كوارث متواصلة، سياسية واقتصادية واجتماعية، ومن أخطار كبرى من داخله ومن خارجه، بعضها جاثم وبعضها داهم.
أود أن أؤكد في هذا السياق، ونحن نواجه أزمتنا الداخلية الراهنة بكل عناصرها، أننا معنيون بما يجري في سوريا. فنحن اليساريين، باسم تاريخ يسارنا القديم وباسم اليسار الجديد الذي أدعو إلى قيامه، كنا دائماً ولا نزال وسنظل، معنيين بالتضامن مع الشعب السوري في طموحه لإحداث التغيير الديموقراطي الذي يحرره من نظام الاستبداد. لكننا كنا على الدوام ولا نزال وسنظل نرفض بحزم أي تدخل من أي نوع ومن أي جهة في الشأن الداخلي للشعب السوري، صاحب التاريخ العريق، الذي هو وحده، أمس واليوم وغداً، يقرر مصيره ومصير وطنه. وإني لأرى، في ظل ما وصلت إليه الأمور في البلد الشقيق، أن الحل السياسي هو الذي يوقف حمّام الدم وبركان الدمار وتهجير ملايين السوريين في الداخل والخارج. وهو الحل الذي تفرض الحرب وتطوراتها أن تشارك فيه قوى خارجية من جهات واتجاهات شتى، إلى جانب ممثلي الشعب السوري. شرط هذا الحل الذي يعود للسوريين وحدهم، أن يقرروه، هو أن يتمّ، كما أكدت مختلف القوى السورية المعارضة، في صيغة انتقالية لا يكون لرأس النظام المسؤول عن الكارثة دور فيه.
في الوقت الذي أعلن فيه، باسمي وباسم يسارنا القديم وباسم اليسار الجديد الآتي غداً، تضامني مع الأشقاء السوريين، أعلن في الآن ذاته تضامني مع الحركات التي اتخذت طابع ثورات في عدد من البلدان العربية، تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين، تحت شعارات الحرية والكرامة والعيش الكريم. وأعلن في الآن ذاته التضامن مع الشعب العراقي الذي ينتفض اليوم ضد قوى الفساد التي دمرت هذا البلد العربي الكبير. لكنني، وأنا أعلن هذا التضامن مع هذه الحركات، أشاركها جميعها في تحميل المسؤولية لأنظمة الاستبداد عن الكوارث التي دمرت ولا تزال تدمر بالحرب هذه البلدان جميعها، وتحميل هذه الأنظمة المسؤولية عن ظهور الحركات التكفيرية بأسمائها المختلفة التي تمارس القتل والتدمير باسم الإسلام نقيضاً كاملاً لقيمه الروحية. تبقى فلسطين وسط كل هذه الهموم التي تخلقها لنا الأوضاع العربية، كما كانت دائماً، وتبقى قضيتها حاضرة في أعماق وجداننا. لكن علينا، في الآن ذاته، أن نحمّل المجتمع الدولي القسط الذي يعود إليه من المسؤولية عما يجري. وندعوه إلى العمل من أجل حلول سياسية توقف حمّام الدم وآلة التدمير المنظم. على أن يكون في أساس هذه الحلول إلغاء أي دور وموقع لرؤوس الأنظمة الاستبدادية، وترك شعوب هذه البلدان تقرّر مصائرها بنفسها. أود في الآن ذاته أن أحمّل الرأسمال المعولم الغارق في أزماته، مسؤوليته من خلال التوحش الذي صار سمة من سماته والظلم المرافق له، وعن الاستمرار في تعميق الفوارق بين دول متقدمة ودول غارقة في تخلّفها وفي ظلاميات أنظمتها الاستبدادية، وعن تفاقم ظاهرة الحركات السلفية التكفيرية والإرهاب الذي تمارسه في بلداننا وفي سائر بلدان العالم. وإذ أشير إلى هذه المسؤوليات جميعها في بلداننا وفي العالم عما نعيش في ظله من كوارث، أدعو اليسار الجديد لكي يكون على تواصل دائم مع الحركات السياسية القائمة، والتي يمكن أن تقوم في أي بلد من بلدان العالم، والتي يلتقي معها في المواقف العامة المتصلة بمستقبل البشرية، ويقرّر بدقة ما يراه ملائماً من أعمال مشتركة مع هذه الحركات على أن يحافظ دائماً على استقلاليته.
أود في ختام هذا العرض للشروط الداخلية والإقليمية والدولية، التي على اليسار الجديد أن يناضل فيها، التأكيد أن عليه أن يختار الوسائل الديموقراطية لنضاله، صيغاً وأشكالاً وأدوات ووسائط، وأن يتجنب أي شكل من أشكال العنف، وأن ينأى بنفسه عن الحركات الشعبوية بكل أشكالها. وعليه في الآن ذاته أن يتجنب في تعامله مع من يختلف معهم، وهم ما أشرت إلى بعضهم، بمن في ذلك الذين يتناقض معهم باسم جمهوره في المصالح من أرباب العمل، أن يتجنب الحقد بأسمائه وصيغه القديمة والحديثة السياسية منها والاجتماعية. فالحقد لا يقود إلا إلى مزيد من الحقد، ويصعّب الوصول إلى حلول، سواء في مجال التناقض بين القوى السياسية ذات الاتجاهات والرؤى المختلفة، أم في مجال النضال الذي على العمال والأجراء أن يخوضوه دفاعاً عن حقوقهم في مواجهة أرباب العمل. البديل الصحيح الذي أقترحه باسم يسارنا الجديد، ولا سيما في مجال الصراع بين العمال والأجراء وبين أرباب العمل، أن يتمّ بالوسائل الديموقراطية وحدها من أجل تحقيق المزيد من المطالب والحقوق.
يبقى أن أشير إلى الصيغة التي ستحدد شكل الانتظام داخل صفوف هذا اليسار الجديد، ووظيفته. لكنني لا أرى ضرورة أن أستبق قيام اليسار الجديد لكي أحدد بالنيابة عنه صيغة انتظامه ووظيفته. فالقيّمون عليه هم أصحاب هذا الشأن. غير أنني أود أن أؤكد ما صار مؤكداً في ضوء التجارب السابقة للأحزاب وللحركات وللتنظيمات السياسية التي عرفها القرن العشرون، أن أي تنظيم سياسي لا بد أن يقوم على مبدأ حرية الأفراد الأعضاء وحرية آرائهم وحقهم الكامل في التعبير عن هذه الآراء. يضاف إلى هذا المبدأ مبدأ آخر يتعلق بالصيغة القيادية للتنظيم. فلم يعد ممكناً ولا مقبولاً في هذا الزمن وفي ضوء التجارب أن يكون على رأس التنظيم "قادة تاريخيون" ثابتون!
ولادة اليسار الجديد وحركة شعبية حاملة مشروع ديموقراطي للتغيير لقد اخترت هذا الوقت بالذات لإصدار هذا البيان لدلالاته ولرمزيته. إنه الوقت الذي يخرج فيه اللبنانيون بأعداد كبيرة إلى الشارع من كل الأجيال ليقولوا بأعلى الصوت كلمتهم التي طال انتظارها، أسوة بأشقائهم في البلدان العربية، بأنهم لم يعودوا قادرين على احتمال العبث المتواصل بوطنهم وبدولتهم وبمؤسساتها وبالمرافق العامة في البلاد، وهذا العبث، باسم الفساد وملحقاته، الذي يطال حقوقهم الطبيعية كمواطنين في الحرية والكرامة والعيش الكريم، وأنهم سيتابعون النضال بالوسائل الديموقراطية من أجل تحقيق مطالبهم السياسية والاجتماعية وإحداث التغيير واستعادة الشرعية الديموقراطية في البلاد بكل أوجهها. وهو ما عبّرت عنه بأشكال مختلفة مشتتة الشعارات التي رفعوها في تظاهراتهم والتي تحتاج إلى تصويب وتدقيق في الاتجاه الذي يخدم الهدف الأساسي المبتغى من هذه الانتفاضة. وهو التغيير الديموقراطي. وفي اختياري لهذا الوقت بدلالاته وبرمزيته لإصدار هذا البيان، تأكيد واضح أنه آن الأوان لهذا اليسار الجديد أن يولد وأن يكون له في هذه الانتفاضة الشعبية الواعدة الدور الذي يعود له في قيادتها مع سائر الذين يلتقي معهم من المناضلين الشرفاء من القوى الوطنية والديموقراطية بأسمائها المختلفة، وأن يعمل معهم من أجل إنضاج الشروط بالتدريج للارتقاء بهذه الانتفاضة إلى مستوى حركة شعبية حاملة مشروع ديموقراطي للتغيير. وهو المشروع الذي أشرت إلى بعض مفاصله الأساسية في هذا البيان.
لقد قلت في هذا البيان ما اعتبرت أنه واجب عليّ قوله وأنا في هذه القمة من عمري التي تتقلص فيها المسافة بين ما أنا فيه وما سأكون عليه وبين نهاية العمر. قلت ما قلت باسم الأعوام السبعين من عمري اليساري، وباسمي كيساري معاصر، وباسم الحلم الذي سيظل يرافقني حتى آخر العمر، الحلم بالتغيير الديموقراطي الذي لا بديل لنا منه. أعلن لأهل اليسار الجديد أنني، في انتظار ولادة هذا اليسار، سأتابع ما أنا منخرط فيه منذ عقود من جهد فكري قدر استطاعتي واستناداً إلى تجربتي الطويلة، وذلك في الاتجاه الذي يسرّع ولادة هذا اليسار. |