Date: Sep 12, 2015
Source: جريدة النهار اللبنانية
سمير فرنجية وحلم التعددية - مروان المعشر
في ظل جو إقصائي حاد تشهده المنطقة العربية حيث إنكمشت المساحة الممكنة للتعددية في الفكر والدين والثقافة، وحيث أصبحت الحقائق أبوابا حتمية لا تحتمل النقاش، من الصعب لأي كان أن يناضل في سبيل الحفاظ على التنوع الثقافي والمجتمعي العربي، ويوظف ما انزل الله عليه من نعم مادية وفكرية ليس لمجد شخصي وإنما لمصلحة الوطن.

يبدو من يرفع علم التعددية وكأنه دون كيشوت العالم العربي، يحارب وحيدا ويقف في وجه العصبيات القبلية والطائفية والسياسات الاقصائية، ويدعو للحوار وإيجاد قواسم مشتركة بين مكونات المجتمع المختلفة وتعظيم الهوية الوطنية الجامعة على كافة الهويات الفرعية، ولا يستخدم سلاحا في سبيل ذلك الا الفكر والمنطق ودروس التاريخ في زمن حل السيف فيه مكان القلم، والحناجر العالية مكان العقل.

سمير فرنجية نشأ في واقع صعب، واذ لم يغفل هذا الواقع أبى الاستسلام له، بل انطلق منه ليعمل على التأسيس لحال مختلفة ووطن جامع وفكر تنويري حداثي يليق بشرق متنوع يأبى الاحتفاء بالتنوع. فحمل لواء الحوار في زمن ينعت به المحاورون بالمساومين، ولم يكن سمير مساوماً في حياته، بل شاء خوض المعركة الأصعب، معركة تغيير العقول والنفوس، وباستخدام الحجة والمنطق. "البيك الأحمر" شاء أن لا يجلس في برج عاجي، بل مع الناس ولأجلهم كي ينعموا بحياة أفضل، وكرس حياته وعقله ولسانه وقلمه من أجل ذلك.

عرفت سمير منذ سنوات، جمعنا حلم مشترك لعالم عربي مختلف يقطنه مواطنون لا أتباع، ويظلله استقرار طبيعي نابع من شعور مواطنيه بمساواتهم أمام القانون رغم تنوعهم الديني والسياسي والثقافي والجندري، وطن لا يعرّف المواطنة على أساس العلاقة بين الدولة والناس فقط، وإنما أيضاً بعلاقة اللحمة بين الناس أنفسهم رغم اختلافهم. أعجبه تعبير التعددية الذي استخدمه دائماً، وتعلمت منه تعابير التنوع والعيش المشترك.

يمر العالم العربي اليوم بأزمة حقيقية، حيث تتآكل الدولة القطرية لتظهر هشاشة الأطر التي قامت عليها هذه الدول وتغليبها هوياتها الفرعية على الهويات الوطنية الجامعة. ويبدو الصوت الأعلى اليوم هو صوت القوى الإقصائية ما دون الدولة، صوت ظلامي تكفيري همجي، يعلي تفسيراً ضيقاً للدين على قيم التنوع واحترام الآراء الأخرى والعيش المشترك. لن يتم دحر الثقافة الداعشية في الوطن العربي، وهي ثقافة تعدت الإنتماء المباشر لداعش، إلا بفكر تنويري حداثي مضاد سلاحه العقل والمنطق وإحترام الآخر، وأداته برنامج تنويري متكامل يعالج الأسباب التي أدت لظهور الدواعش بيننا ويؤسس لأوطان تحترم مواطنيها وتساوي بينهم ويدافع عنها مواطنوها متحدين لدى ظهور أية أخطار تحيط بها.

سمير فرنجية دعا لهذه الثقافة لعقود قبل ظهور داعش بيننا، وعمل من أجل سلم أهلي لا يكتفي بإيقاف الحرب، وإنما بالعمل لإقامة مجتمع التعددية والازدهار والتنوع. ويوم كان صوت البندقية هو الأقوى في لبنان، لم يردع ذلك سمير فرنجية عن مواصلة السعي من أجل مستقبل مختلف.

سمير فرنجية يغني لبنان كما يغتني به. ولكنه لا يغني لبنان وحده. العالم العربي كله اليوم بحاجة لاستنساخ سمير فرنجية مئات المرات، بحاجة لافراد لا تقف حواجز الجهل والاقصائية عائقاً أمامهم لبناء وطن عربي جديد، قوامه المواطنة الحاضنة للتنوع وليست المستوعبة له فقط، حيث ينظر للتعددية على أنها مصدر قوة ومنعة، لا مصدر وهن او تفكك.

قد يأخذ الوطن العربي عقوداً من الزمن لتحقيق هذا الحلم، ولن يحققه من يبقي إصراره على احتكار الحقيقة وتعظيم الذات وتقزيم الآخر. ولكن من ينجح في الوصول لمجتمعات حية تنويرية تعددية مزدهرة في نهاية المطاف، سيذكر سمير فرنجية في مقدمة من أضاؤوا الطريق نحو شرق يليق بتنوعه وحضارته وغناه الفكري.

وزير الخارجية الأردني الاسبق