Date: Sep 8, 2015
Source: جريدة الحياة
العرب... سرعات متفاوتة - مصطفى الفقي
نجح الاتحاد الأوروبي في أن يفرض وجوده على الخريطة الدولية مع نهاية الحرب العالمية الثانية مـــنذ بدأ «تجمع الحديد والصلب» كنواة للسوق الأوروبيــة المشتركة التي تطورت مع نهاية الحرب الباردة لتستقر «أوروبا الموحدة» - شرقها وغربها - في اتحاد أوروبي متفاوت السرعات بحيث لم تفرض اتفاقياته المختلفة حداً أدنى لحركة دولة تسعى إليه.

نعم... لقد وضع الاتحاد شروطاً لعضويته تتصل بالانتماء للحضارة الأوروبية وسلوكها وعناصر وجودها لكنه ترك لكل دولة معدل السرعة الذي تراه ممكناً للحاق بقطار «الاتحاد» الذي يتحرك بسرعته الطبيعية ويسمح للآخرين بركوب القطار في المحطة المناسبة من دون ضغوط أو انتقادات أو خلافات، بريطانيا تتمسك بمنطقة «الاسترليني» وترفض العملة الأوروبية الموحدة فلها ما تريد، ودول أخرى لا تتحمس لاتفاقية تأشيرة الدخول الأوروبية الموحدة (شينغن) فلا بأس، وبذلك أصبحت عضوية الاتحاد اختيارية وطوعية ولا يوجد إجبار قومي أو ضغط أوروبي يدفع إحدى الدول إلى تلبية الشروط إلا وفقاً لظروفها وبالطريقة التي تراها، لذلك فإنني استحضر الآن النموذج العربي للعمل المشترك داخل «الجامعة» وخارجها لكي أضع الاعتبارات الآتية أمام صانع القرار في كل عاصمة عربية:

أولاً: إن «القومية» بطبيعتها وفي أبسط تعريفاتها انتماء طوعي يأتي نتيجة الاحساس بالرابطة التاريخية التي تتركز على عوامل مختلفة يتصدرها عنصر «اللغة الواحدة»، لذلك فإننا نقول - على سبيل المثال - أن «العربي» هو كل من كانت «العربية» لغته الأولى، وبذلك فإن الشعور القومي ينبع ذاتياً ولا يأتي فرضاً أو قسراً ولكنه يأتي اختياراً ورغبة وعقيدة، و «العروبة» بطبيعتها اختلطت لدى أبنائها بالتاريخ المشترك والجغرافيا المتقاربة والمناخ الإنساني المتشابة، وإذا كان «الإسلام» قد حمل «العروبة» إلى خارج «الجزيرة العربية» إلا أنها استقرت وتجذرت في كافة المناطق التي وصلت إليها، ويثور جدل مستمر بين أولوية من على الآخر هل «العروبة» هي التي حملت «الإسلام» إلى الشعوب الأخرى؟ أم أن «الإسلام» هو الذي حمل «العروبة» إلى شعوب بذاتها؟ بدليل أن معظم العرب مسلمون ولكن معظم المسلمين ليسوا عرباً فهناك دول قبلت «الإسلام» ديناً وتحفظت على «العروبة» ثقافة، بينما هناك دول أخرى قبلت الاثنين معاً.

ثانياً: دعنا نعترف أن التنظيم الدولي المعاصر يعانــــي مــــن محنة واضحة ويمر بأزمة شديدة ولم يقف الأمر عند حدود «الأمم المتحدة» وظروفها الصعبة وحــاجتها إلى الإصلاح بل إن هناك منظمات أخرى قارية وإقليمـــية وقومية واجهت ظروفاً جديدة أثرت في كفاءتها ونالــــت من قيمتها، ونتذكر الآن أن «جامعــــة الدول العربية» قد قامت قبل قيام «الأمم المتـــحدة» فتأثر ميثاقها بـ «ميثاق عصبة الأمم» وتسللت «قاعدة الإجماع» إلى بنود القانون الأساسي لـ «الجامعة» فأصبحت مكبلة بقيد لا فكاك منه يؤثر في مستقبل العمل العربي المشترك بل يعطل الإرادة التوافقية لمعظم الدول الأعضاء أحياناً، وإذا كانت «جامعة الدول العربية» تفتقر إلى القوة الإلزامية في تنفيذ سياساتها المختلفة وتقف عاجزة أمام الأزمات الطارئة والقضايا المعقدة فإن «قاعدة الإجماع» تكبل حركتها وتعوق قدرتها على أن تكون منظمة للدول العربية تحت إطار قومي تستطيع أن تتصدى للعلاقات مع «دول الجوار» والقوى الإقليمية الأخرى فضلاً عن القوى العالمية.

ثالثاً: لـــقد قـامت تجارب وحـــدوية بيــن بعــــض الدول العربية في محاولة لتحقيق حلم الوحدة ولكنهـــا انتكـــست جميعاً والسبب ببساطة أنها جاءت متســـرعة غير مدروسة وكانت عاطفية في أغلبها أكثر منـــها واقعية، كما أن بعض الحكام أرادوا القفز إلى المستقــــبل بغير استعداد له فكانت النتيجة مثلاً هي نكســــة الانفصال وتفكك «الجمهورية العـــربية المتحدة» عام 1961 بعــــد أقل من ثلاث سنــوات على قيـــام دولـــة الوحدة بين مصر وسورية وهـــذا نمــــوذج واحـــد للاخفاق القومي نتيجة تجاهل منطق السرعات المتفاوتة والرغبة في فرض شكل دستوري من دون تكامل اقتصادي أو غطاء شعبي متصورين أن الوحدة تأتي قسراً وتمضي بلا إرادة تصعد من أسفل إلى أعلى لكي تكون واقعية ودائمة.

رابعاً: يظن البعض أن الانتماء القومي يصطدم بالانتماء الوطني وأن «دولة الجنسية» لا تقبل ما عداها وترفض كل انتماء فوقها وهذا تفكير مغلوط لأن «العروبة» لا تمنع أن يكون العربي منتمياً الى وطنه السوري أو العراقي أو الجزائري أو السوداني أو السعودي أو المصري، بل إن «الوطنية» و «القومية» متكاملتان وليس بينهما حاجز يحول دون ذلك، لذلك فإن التعصب القطري لا يتفق مع نظرية «السرعات المتفاوتة» والذين يقولون (مصر أولاً) إنما يقعون في خطأ لا مبرر له إذا أن التعارض غير قائم ولن تكون الأمة العربية قوية ومنيعة إلا بمجموع أبنائها وقدرتهم على الاصطفاف أقوياء بدلاً من التجمع ضعفاء فليس هناك مانع أن يكون الوطن أولاً ولكن ذلك لا يمنع غيره من أن يكون ثانياً قد يعلو على غيره من الانتماءات.

خامساً: لقد حان الوقت لكي يعيد العرب النظر في سلوكهم السياسي وآمالهم التي يتطلعون إليها ويسعون إلى تحقيقها ولا شك أن الدولة الوطنية القوية هي رصيد متين لأمة قادرة على فرض وجودها على الساحتين الدولية والإقليمية، ولقد أحاطت التحديات بأمتنا من كل جانب وأصبح من المتعين علينا أن نعيد النظر في كثير مما يحيط بنا حتى لا تتكـــرر أخطاؤنا أو تنشأ بيننا نزاعات نتيجة الاختلاف فــي وجهات النظر ولتحترم كل دولة عربية خيارات الدولة الأخرى ما دامت الثوابت قائمة والالتزام القومي معمول به لا خروج عنه، ولعلنا نتذكر هنا أن انفراد دولة أو أخرى بحل لمشكلة قومية في عزلة عن سواها قد يؤدي إلى انتكاسة عربية شاملة، فالحوار مطلوب واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

سادساً: إن الصراع العربي - الإسرائيلي وتداعيات المشكلة الفلسطينية تحمل في مجملها جوهر المعضلة العربية عموماً، إذ إن قيام «الدولة العبرية» قد أدى إلى جمود الموقف العربي وإصابته بالشلل السياسي أحياناً لأن إسرائيل ليست خصماً عادياً ولكنها دولة «عدوانية» «توسعية» «استيطانية» «عنصرية»، ولعل المشهد العربي الراهن لا يحجب أصابع إسرائيل في كثير من مشكلات المنطقة خصوصاً في «المشرق العربي» وسيظل الوضع متوتراً ما لم يحسم العرب علاقاتهم بدول الجوار الثلاث إسرائيل وإيران وتركيا مع تحديد صيغة عصرية للعلاقة بين العرب وواشنطن.

سابعاً: أتذكر من سنوات عملي مع الرئيس الأسبق حسني مبارك عندما كان يضيق بمشاورات انعقاد القمة العربية والاختلافات حولها، لقد كان الرئيس المصري الأسبق يقول (إن منظمة الوحدة الأفريقية تنعقد في موعد محدد تكاد تضبط عليه الساعة، أما نحن العرب فإن مجرد الانعقاد لا يزال أمراً دونه الكثير من العقبات والحساسيات والمشكلات) والحل لكي نتجاوز ذلك هو أن نرتفع فوق الواقع وأن نعمل من أجــل المصالح العليا للأمة وألا نستجيب للتدخلات الأجنبية أو الضغوط الخارجية، وأنا أدرك أن ذلك ليس أمراً سهلاً فالأطماع في هذه المنطقة تاريخية ومعـروفة بسبب موقعها الاستراتيجي وثرواتها الطبـــيعة والبشرية ولأنها تتحكم في مداخل القارات الثـــلاث الأفريقية والآسيوية والأوروبية ومع ذلك فإن علينـــا أن نرتفع إلى مستوى المسؤولية في ظل هذه الظـــروف الصعبة التي تواجهها الأمة، وجدير بالذكر أن «الاتحاد الأوروبي» ليس وحده هو النموذج الذي نتطلع إليه بل إن الأشقاء الأفارقة، كما أسلفنا، يملـــكون تجربة واعية في هذا السياق ويعترفون بالتفاوت بين السرعات ولا يرفضون حق الاختلاف كمـــا يؤمنون دائماً بأن «ما لا يدرك كله لا يترك كله»، ولعل تجربة المملكة المغربية مع منظمة «الوحدة الأفريقية» هي خير دليل على ذلك حيث جمدت الرباط عضويتها في المنظمة الأفريقية بسبب عضوية «الجمهورية الصحراوية» ومع ذلك لم يسقط التنظيم الدولي الأفريقي ولم يشجب أحد قرار المغرب بل جرت محاولات دائمة لرأب الصدع وتسوية النزاع.

... لعلنا ندرك من النقاط السابقة أن ما جرى ويجري على الساحة العربية يجافي إلى حد كبير روح العصر ويفتح باباً لخلافات لا مبرر لها وأزمات كان يمكن تلافيها لو أننا آمنا بحق كل دولة في ممارسة سيادتها وحرية الاختيار الذي تراه للسرعة التي تمضي بها وسط المجموع، ولا يجب في هذه الحالة أن ينتظر الأسرع الأبطأ، كما أن الأبطأ يجب ألا ينزعج إذا حالت ظروفه دون اللحاق بالأسرع، فقطار العمل العربي المشترك يتوقف في محطات متتالية ويخضع لسرعات متفاوتة تحتاج إلى قدرة على الوعي بالواقع وفهم الحقيقة وإدراك طبيعة العصر الذي يسمح بثقافة الاختلاف السياسي من دون أن يكون ذلك سبباً لمشكلة أو مبرراً لأزمة أو دافعاً نحو نزاع لا حاجة إليه.

* كاتب مصري