Date: Sep 6, 2015
Source: جريدة الحياة
حاجة «حزب الله» إلى ... «14 آذار» - حازم الامين
انقض «حزب الله» على «الحراك» اللبناني ما إن شعر أن المُستهدف هو ما يُمكن أن يكون «النظام». أطلق العنان لـ «حليفه» ميشال عون، ودفع بإعلامه نحو حملة على الناشطين، فهم تارة «صبية سفارات» وتارة أخرى مراهقون لا يدرون ماذا يفعلون. والحال أنه ليس رفع بعض المتظاهرين صورة أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله كواحد من أركان النظام الفاسد ما أثار الحزب، بل شعور الأخير أن السير في هذا الطريق سيفضي حكماً للبحث في دور الحزب وموقعه من التركيبة السياسية والمذهبية اللبنانية.

ما دأب كثيرون على قوله بالتزامن مع «الحراك»، لجهة أنه لا يوجد نظام في لبنان لإسقاطه، غير صحيح إطلاقاً. ففي لبنان «نظام» له وظيفة دقيقة وقائم على توازنات، وهو اليوم في لحظة اختلال كبرى، ليس بسبب «الحراك» إنما لأسباب سابقة عليه. ومنذ 2005 يتخبط لبنان بتبعات هذا الاختلال، إلى أن وصل إلى لحظة ذروة لم يعد فيها قادراً على تلبية وظائفه البديهية.

إنه نظام ما بعد عالم 1990، وهو ليس نظام الطائف على ما قد يتبادر للذهن. فقد تم تجاوز الطائف منذ اللحظة الأولى من مــباشرة تطبيقه. وحدد الراعي الإقليمي لهذا النظام وظيفتين، الأولى داخلية تولاها الرئيس الراحل رفيق الحريري، والثانية إقليمية تولاها «حزب الله». وإذا كانت للأول مهمة خارجية فقد حُصرت في تلبية المهمة الثانية. وما إن شعر «النظام» أن الحريري الأب ذهب في مهمته الإقليمية إلى أكثر من الوظيفة التي أناطها به حتى قتله.

اهتز «النظام» ما إن قُتل الحريري، لكنه لم يسقط، فقد استعيض عن الفراغ فيه نتيجة انسحاب الجيش السوري وتقلص نفوذ نظام دمشق في بيروت، بنفوذ أمني وعسكري مباشر لـ «حزب الله» (7 أيار/ مايو، نموذجاً). جرى ذلك في ظل إفساح المجال لقوى تقليدية (المستقبل والاشتراكي) لا تخضع لتأثير الحزب وطهران، لكنها لا تُهدد النفوذ. كما ضمت قوى جديدة إلى منطقة النفوذ كالتيار العوني، وغيره من قوى صغيرة كانت شعرت باليتم مع مغادرة الجيش السوري لبنان.

كان توازناً هشاً ذاك الذي أعاد «النظام» تأمينه لنفسه، لكنه استمر في تأدية الوظيفة الرئيسة له، كركيزة سياسية وأمنية وخدماتية للذراع الإقليمية لمحور الممانعة.

صحيح أن «إسقاط النظام» يعني وفق الذين سارعوا إلى تبني هذا الشعار، إسقاط نظام الفساد والمحاصصة الطائفية، لكنه قبل ذلك يعني إسقاط الوظيفة الفعلية لهذا النظام. فـ «النظام» ليس سعد الحريري، ذاك أن الرجل خارج لبنان اليوم، وتياره يترنح بأزمات أين منها أزمة اللبنانيين مع شركة «سوكلين». و «النظام» طبعاً ليس ميشال عون، وجل طموح الرجل أن يُمضي سنواته الأخيرة رئيساً من دون صلاحيات. «النظام» معد لمهمة واحدة ثابتة، هي الدور الإقليمي لـ «حزب الله». ولنراقب البيانات الوزارية منذ 1990 إلى اليوم. فالثابت الوحيد فيها هو تشريع سلاح «حزب الله»، فيما التسويات قد تطال كل شيء خارج هذا البند.

الفساد وظيفته تسويات تُمرر بند السلاح، والمحاصصة أيضاً هذه وظيفتها. والقول إن «حزب الله» ليس جزءاً من آلة الفساد تتفاوت صحته إذا كان المقصود الفساد المباشر، لكن الفساد كان نظام مكافآت في ظل المهمة المركزية. وهذه الآلية شهدت ذروتها بعد اختلال التوازن الأول الذي كان قائماً على الوظيفتين الداخلية والإقليمية. فتيار المستقبل بعد مقتل الحريري الأب فقد الكثير من شروط الشراكة، ما أفسح مجالاً لحصة أكبر لـ «حزب الله» في «النظام». سلاح المقاومة انتقل إلى مهمة جديدة في سورية، وهو تجاوز للبيان الوزاري، وهذا الأمر سهلته الانكفاءة الحريرية، ذاك أن الحزب لم يعد يشعر بأن «النظام» مهدد بهذه المهمة.

نعم، مَن غير «النظام» من أتاح لـ «حزب الله» أن يقاتل في سورية؟ فالحزب شريك مباشر في حكومة «النظام» ويتمتع بتمثيل واسع في برلمانه وبشبكة تحالفات متنوعة فيه. وهل من شيء نموذجي أكثر من ذلك لتعزيز المهمة الإقليمية التي يؤديها.

سريعاً ما تراجع حلفاء الحزب في الحراك عن مقولة «إسقاط النظام». الأرجح أن إصبعاً لاحت محذرة من شطحة «المراهقة» هذه. لكن الأمر لن يقتصر على هذا التراجع، فيبدو أن قصر المطالب على مكافحة الفساد ومحاسبة المسؤولين، وإن كانوا من خصوم الحزب، سيتحول لاحقاً إلى خطيئة بحق المقاومة. ذاك أن الخصومة هنا قائمة على توازن ضمن النظام. وبهذا المعنى فالحراك اللبناني وإن اقتصر على مطلب محاسبة المسؤولين عن فضيحة النفايات، ومعظمهم ربما كانوا من خصوم الحزب، سيفضي لاحقاً إلى تهديد مهمة النظام المركزية، أي إبقاء لبنان ركيزة الوظيفة الاقليمية التي يتولاها «حزب الله».

السؤال هنا هو: هل من قوة لبنانية تُهدد مهمة «حزب الله» الإقليمية؟ الجواب الحاسم هو لا كبيرة. إذاً ما هي مصلحة «حزب الله» في حراك قد ينتج معادلات مختلفة؟ هذا السؤال وحده ما يُفسر انقلاب حلفاء الحزب على الحراك.

ثمة شيء آخر مذهل كشفه الحراك اللبناني على هذا الصعيد، ويتمثل في أن وجود «14 آذار» في لبنان ضرورة لقيام الحزب بمهامه. فلنتخيل مثلاً لبنان من دون «14 آذار»! كيف كان الحزب سيعالج هذا الاختلال؟ فموقفه إلى جانب وزراء في «14 آذار» كشف كم تبدو حاجته لهذا الانقسام جوهرية، وأنه لا يستطيع تأدية مهمته من دونه.

فأن تواجه وزراء في «14 آذار» من خارج الانقسام يعني أنك تواجه «نظام الانقسام»، وهذا الأخير تتمثل مهمته الرئيسة في تأمين المهمة الإقليمية، لقاء مكافاءات يتوزعها الخصوم والحلفاء. هذه لحظة كشفتها تظاهرة 29 آب (أغسطس) في بيروت.

المجيء إلى التظاهرة من خارج 8 و14 آذار، أقدم عليه هذه المرة شباب كانوا إلى اليوم الذي سبق التظاهرة جزءاً من هذا الانقسام، وهو وإن اقتصر على مطلب متعلق بالنفايات وبالفساد، إلا أنه كان رقصاً خارج «النظام». وعندما استجاب الناشطون لتهديدات بضرورة سحب صورة نصرالله من بين صور الزعماء المستهدفين بشعارات التظاهرة، شعر الحزب بأن الاستجابة خطوة ماكرة، وأنه مستهدف ضمناً، فباشر أنصاره حملة تخوين الناشطين.