Date: Aug 13, 2015
Source: جريدة النهار اللبنانية
مصر في حاجة إلى "التنمية من أسفل" - السيد يسين
هناك في علم التنمية المعاصر نظريتان. النظرية الأولى يطلق عليها التنمية من فوق وتعني برامج التنمية التي يضعها الخبراء الاقتصاديون سواء كانوا يعملون في الحكومة أو في القطاع الخاص، وفقا لمعايير الربحية في المقام الأول وبغض النظر عن كون هذه البرامج تلبي الحاجات الأساسية للجماهير العريضة أم لا.
 
في هذا الإطار تحاول الحكومات جذب الاستثمارات الأجنبية بكل طريقة، وتحفيزها على تمويل مشروعات التنمية، وتغري المستثمرين الأجانب بأنهم سيحصلون على أعلى عائد استثماري. من أجل ذلك تعدل التشريعات حتى تسهل إقبال المستثمرين الأجانب والمحليين بدون أن يواجهوا عقبات البيروقراطية العتيدة أو مزالق الفساد المعمم.

غير أنه ثبت من واقع الممارسة التنموية في العالم أن "التنمية من فوق" ليست أصلح الطرق لمواجهة التخلف والتقدم بالمجتمع إلى الأمام من خلال إنهاض الطبقات الفقيرة والمتوسطة من وضعها الطبقي البائس، ودفعها للحراك الاجتماعي الصاعد. ومن هنا صاغ عدد من علماء التنمية الراديكاليين نظرية تنموية مغايرة يطلق عليها "التنمية من أسفل" .

وهي تعني النزول الميداني إلى ساحة الجماهير العريضة لمعرفة المشكلات الحادة التي يعانون منها، وتصوراتهم للمشروعات التي يرون أنها ينبغي البدء بها لترقية أحوالهم في المدى البعيد.

ويمكن القول أن الاقتصادي الإنكليزي الراديكالي شينري Chenryيعد من رواد "التنمية من أسفل" بعد أن أصدر منذ سنوات بعيدة كتابه الشهير "النمو وعدالة التوزيع" وكانت هذه تقريبا أبلغ صيحة في علم الاقتصاد المعاصر في مجال نقد تقويم نمو الاقتصادات المختلفة بارتفاع معدل الدخل القومي، على أساس نظرية وهمية مفادها أن ثمار التنمية ستنهمر من أعلى إلى أسفل!
وقد ثبت بطلان هذه النظرية. ويكفي أن نقارن الوضع الطبقي في مصر في السنوات الأخيرة قبل ثورة 25 يناير حيث كانت دعاية النظام تقوم على أساس أن الاقتصاد المصري حقق معدلا لنمو الدخل القومي يفوق 7%. ولكن بتمحيص هذا الرقم نقديا ثبت أنه في الوقت الذي زاد فيه الأغنياء غنى زاد الفقراء فقرا!

ولو رجعنا إلى أرقام الجهاز المركزي للإحصاء لاكتشفنا – من واقع الأرقام الصحيحة- أن معدل الأمية 26%، وعدد المصريين الذين هم تحت خط الفقر 26 مليون مواطن، والذين يقيمون في العشوائيات 18% من السكان!

وهكذا تتضح أكذوبة أنصار نظرية "التنمية من فوق" والتي صيغت في الواقع لتكون في خدمة الرأسماليين ورجال الأعمال، وبغض النظر عن مصالح الجماهير العريضة المشروعة.

وقد أتيح لمجموعة من علماء الاقتصاد والاجتماع المصريين فرصة نادرة لتفنيد الأساطير الخاصة بارتفاع معدل الدخل القومي باعتباره معيارا موضوعيا للتقدم الاقتصادي حين دعتنا الدكتور هالة السعيد أستاذة الاقتصاد وعميدة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لندوة علمية عقدت في مقر الكلية لمناقشة العرض الذي يقدمه خبير إيطالي اسمه بارلوفيرمي كبير الاقتصاديين في البنك الدولي بعنوان "داخل عدم المساواة في جمهورية مصر العربية: الحقائق والمدركات" وقد شاركت في تحرير هذا التقرير مجموعة باحثين أجانب ومصريين.

وتقوم الفكرة الرئيسية للتقرير على أساس التعجب من مفارقة أن معدل نمو الدخل القومي وصل إلى 7% في السنوات الأخيرة من عهد مبارك في حين أن استطلاعات رأي الجماهير – كما قاسها "المسح العالمي للقيم" والذي استطلع آراء عينات ممثلة من المصريين ذهبت إلى العكس، بمعنى إحساس الناس أن حالتهم المعيشية تدهورت بشدة بحكم التضخم والارتفاع المستمر في الأسعار، هذا بالنسبة لمتوسطي الحال أما الفقراء فإحساسهم هو أنهم ازدادوا فقرا!

وقال ممثل البنك الدولي متعجبا أن هذا يمثل لغزا لابد من حله. فأرقام ارتفاع الدخل القومي صحيحة، كما أن بيانات استطلاعات الجماهير صحيحة فما هو التفسير؟ هكذا تساءل هذا الخبير الأجنبي بسذاجة منقطعة النظير!

لقد لخصت ما دار في هذه الندوة المهمة في مقال لي نشر في جريدة "الحياة اللندنية" بتاريخ 11 أيار 2014 عنوانه "غباء الأنظمة وذكاء الشعوب".

وكنت أعني أن الأنظمة السياسية يمكن أن تزعم مزاعم فارغة عن ارتفاع معدلات الدخل القومي، ولكن الجماهير العريضة بحسها الشعبي وذكائها الفطري كشفت اللعبة الخفية بحكم واقعها البائس والمرير.

ومن هنا يمكن القول أنه لا يمكن تغيير حال الطبقات الجماهيرية العريضة سواء في ذلك الطبقات الدنيا أو الطبقة المتوسطة بغير التحول الجذري من نظرية "التنمية من فوق" إلى نظرية "التنمية من أسفل". ويقتضي ذلك تشخيصا موضوعيا للمشكلات الأساسية التي تعاني منها الجماهير العريضة. ولو أردنا أن نحدد هذه المشكلات – من واقع المتابعة المنهجية- لقلنا أن مكافحة الفقر لابد أن تحظى بأولوية أولى في برامج التنمية.

ونحن نعلم أن هناك برامج تنموية عالمية تحاول مجابهة الفقر باصطناع وسائل متنوعة وفعالة. دراسة هذه البرامج وانتقاء ما يتوافق مع التنمية المحلية والشخصية المصرية مسألة ضرورية مع الوضع في الاعتبار أن مكافحة الفقر لا ينبغي أن تكون مهمة الحكومة فقط، بل لابد أن تشارك فيه كل مؤسسات المجتمع وخصوصا القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني التي تتلقى المعونات الأجنبية بالملايين لمجرد الدفاع عن حقوق الإنسان على الطريقة الغربية التي تركز على حرية الرأي وحرية التفكير وحرية التنظيم، ولكن أليست مكافحة الفقر في صلب حقوق الإنسان التي ينبغي الدفاع عنها؟

إن رداءة التعليم تعد مشكلة كبرى وذلك لأن التعليم ببرامجه المهترئة لا ينتج لنا خريجين سواء من المدارس الثانوية أو الجامعات يحتاجهم سوق العمل من ناحية، ولا هم يمتلكون القدرات اللازمة للقيام بأعمال منتجة من ناحية أخرى.

ومن هنا فالاستثمار في التعليم من خلال القيام بثورة تعليمية كبرى يعد أسبقية تنموية فائقة، وخصوصا إذا ما تم التطوير الكامل للتعليم الفني الذي يحتاج سوق العمل لخريجيه المؤهلين بشدة.
ولابد من رفع كفاءة الخدمات الصحية لارتباطها بشكل دقيق بالإنتاجية. ونأتي لأخطر المشكلات التي ينبغي التفكير بعمق لحلها بطرق إبداعية وهي البطالة، وخصوصا الارتفاع الرهيب في معدلات بطالة الشباب.

ومن هنا يمكن القول أن برامج "التنمية الجماهيرية" لابد لها أن تركز على مكافحة الفقر، وتطوير التعليم، ورفع مستوى الخدمات الصحية، وأخيرا وقد يكون أولا مجابهة مشكلة البطالة. ببرامج تنموية مبتكرة.

باحث مصري