إضافةً الى ما أتاحته أزمة النفايات في بيروت من طرائف تناقلها المواطنون ومقالات مميّزة كتبها زملاء (مقال حازم الأمين في هذه الزاوية في "ناو" ومقال روجيه عوطة في "المدن" ومقال سامر فرنجية في "الحياة" أمثلةً)، فإنها تسبّبت عن غير قصد في إعادة قضايا ومفاهيم سياسية مغيّبة منذ عقدين الى الحيّز العام فارزةً الكثير من اللبنانيّين وِفق معايير مختلفة – ولَو مؤقّتاً – عن الفرز الذي ساد وما زال (منذ عقدين أيضاً) تجاه الأزمات والمسائل "الكبرى". من هذه القضايا العائدة، قضايا العقود والتلزيمات لشركات خاصة كان قد جرى تكليفُها في حقبة التسعينات بإدارة خدمات أساسية في بيروت، من دون أن تُناقش تفاصيل عقودها علانيةً أمام الرأي العام (خارج إطارَي الثناء والهجاء الفاقدَين للصدقية وللمعايير العلمية)، ومن دون أن يُحاسَب أيّ من المتعاقدين مرّةَ إن قصّر أو أساء. ومن هذه القضايا أيضاً، بعض الأدوار المُفترضة للبلديّات المصادَرة من قبل الشركات الخاصة إياها، أو من قبل أقطاب الطبقة السياسية الباحثين عن قنوات تُعينهم على تدعيم شبكات الزبائنية وتكريسها سبيلاً شبه وحيد لحصول المواطنين على خدمات، أو لحصول الشركات والبلديات على عقود وتلزيمات. ومن هذه القضايا كذلك، حقّ اللبنانيّين في محاسبة السياسيين (والأمنيّين والعسكريّين) والتظاهر ضدّهم في ما يخصّ قضايا مجتمعية حيوية، بمعزل عن الاصطفافات المرتبطة بالمسائل السياسية "الاستراتيجية" أو بالقضايا الإقليمية. ذلك أن موقفاً "صائباً" متّخذاً من القضية السورية أو من قضية سلاح حزب الله أو من غيرهما لا يُفترض أن يبرّر لمتّخذه أمام جمهوره تواطؤاً أو تقصيراً في ما يخصّ جمع النفايات وتنظيف شوارع العاصمة. وهذا في ذاته إن أُسقِط على القضايا الاقتصادية والاجتماعية جميعها (الكهرباء خاصة!)، يجعل معظم الاصطفافات الشعبية متحرّكةً وفق المصالح والأولويّات أكثر منها وفق الانتماءات الطائفية أو الولاءات المطلقة لزعماء ووُجهاء. ومن هذه القضايا أخيراً، ضخّ جرعات من التواضع أو من الشعور بالخجل لدى قسم من اللبنانيّين تجاه عجز سياسيّيهم المُنتخَبين ومؤسّساتهم عن "إدارة الزبالة" وإيجاد حلول بيئية واقتصادية ناجعة لها، وطويلة الأمد. وهذا من شأنه ربّما أن يدفع هؤلاء الى التفكّر بشؤونهم وشجونهم بقدرٍ أقلّ من ادّعاء تملّك اليقين والتفوّق عبره على "يقين الآخرين". بهذا المعنى، سمحت النفايات المتراكمة في الشوارع لفئاتٍ كثيرة بإعلاء أصواتها خارج منظومة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وخارج اللغو الدائم حول المحاور الإقليمية التي قليلاً ما يُقدّم السياسيون اللبنانيّون أو يؤخّرون في توازناتها ومعادلاتها. وسمحت أيضاً بجعل موالين لتيّارات ينتقدونها إذ أقحمت اتّهامات من خارج أزمة النفايات الى حلبتها. طبعاً لا يعني ما ورد أن القضايا الكبرى التي ينقسم اللبنانيون تجاهها أو تلك التي تهدّد جدّياً كيانهم ودولته هي قضايا الى تراجع أو أنه ينبغي أن تتراجع. العكس هو الصحيح. لكن الذهاب إليها والتمسّك بالمواقف منها إذا ما ترافق مع استقلاليةٍ تجاه الزعماء السياسيين الطوائفيّين نتيجة تقصير وفساد ورقاعة معظمهم، يمكن أن يقود مع الوقت الى قيام حيويّات سياسية جديدة والى قدرة على التعاون والتعايش في ما يخصّ الشؤون اليومية لا تنتظر تداعيات الاتفاق النووي مع إيران ولا مترتّبات استمرار حزب الله في القتال الى جانب الفاشية الأسدية في سوريا.
لعلّ ما جرى يؤسّس لحالة وعيٍ جديد، على الأقل في صفوفٍ شبابية وطلّابية، فيستمرّ ناشطوها في الضغط لمنع "السرّية" عن العقود والتلزيمات الجديدة أو المُجدَّدة، ويُطالبون بتفعيل أدوار البلديات والسعي لتطبيق اللامركزية الإدارية التي نصّ عليها "اتّفاق الطائف"، ويُدقّقون أكثر في تصريحات سياسيّيهم وفي الاتهامات الهوجاء لوسائل إعلامهم. وإن لم يفعلوا، فسيكون ما جرى تجربةً جديدة تُضاف الى تجارب كثيرة عرفها لبنان ما بعد الحرب، وضاعت بأغلبها أو ذهبت الى مكانٍ ما في زوايا ذاكرتنا الجماعية.
|