Date: Aug 3, 2015
Source: جريدة الحياة
في القابليّة للإرهاب... - محمد الحدّاد
أثناء حرب التحرير الجزائرية، كان الجدل حاداً فــــي تـــحديــد مــاهية الاستعمار، وكان المــفكّر الجزائري مالك بن نبي، يدافع عن رأي متميّز تسبّب له بعداوات كثيرة، إذ كان يقول: إذا كنا مستعمَرين فلأنّنا نحمل في ذواتنا القابلية للاستعمار، وإذا أردنا أن نتحرّر ينبغي أن نخلّص أنفسنا من هذه القابلية.

كم نحتاج إلى استلهام هذا الرأي ونحن نخوض الجدل المحموم حول الإرهاب وجذوره وأسبابه. فمنذ 2001 والنقاش يدور في حلقة مفرغة، وكلّ الأطراف تضرّرت ضرراً بالغاً من الإرهاب، وتتّهم بعضها البعض بأنها مصدره.

ومهما كانت الاختلافات في تعيين المصدر، وهل هو محلي أم خارجي، فالأهم أن نتساءل: لماذا تميّز الشرق الأوسط بهذه القابلية الهائلة للإرهاب، وهذه السرعة المهولة في انتشاره، بل الإبداع فيه كلّ الإبداع؟ ولماذا كان شباب هذه المنطقة، المقيم فيها أو المهاجر، الأكثر استعداداً للتجنّد والتضحية بالنفس في العمليات الإرهابية؟ ولماذا كان العديد من أثرياء منطقتنا الأكثر تمويلاً لشبكاته المعقدة؟ ولماذا كان الإعلام والثقافة الأكثر تفهماً وتعاطفاً مع الإرهاب وعواقبه الوحشية، حتى صارت حوادث اصطدام السيارات تصدم المشاعر بأقوى مما تصدمها العمليات الإرهابية؟

إذا افترضنا مع المفترضين أنّ الإرهاب مؤامرة تحاك من الخارج ضدّ المنطقة، وأنه ليست لدينا القدرة على إيقاف هذه المؤامرة من المصدر، فلماذا لا نسعى إلى إيقافها بتقليص القابلية لاستفحالها في هذه المنطقة أكثر كثيراً من كل أنحاء العالم؟ ألا يمكن أن نتّفق على بعض المعطيات:

أولاً، الإرهاب لا دين له، ولا يوجد دين يتحمّل بصفة خاصة مسؤوليته، لكن من يظنّ أنه يحتكر الحقيقة المطلقة، أكانت دينية أو غير دينية، معرّض للإصابة بنقص المناعة من الإرهاب. لقد أطلقت صفة الإرهاب على الإرلنديين الكاثوليك واليهود الصهاينة والحركات اليسارية المسلّحة، قبل عقود من استعمالها وصفاً لحركات الجهادية الإسلامية. لكن الإرهاب حالياً يوظّف الدين، وهذه حقيقة سوسيولوجية لا علاقة لها بالإيمان، والتغاضي عنها يمثل ضرباً من المكابرة. والأخطر، أنه من دون الاعتراف بها لا نخطو خطوة للتخلّص من داء القابلية للإرهاب.

ثانياً، أفضل طريقة لتوقّي الإرهاب لا تتمثل في مواجهة حقيقة مطلقة بأخرى مطلقة، ولو كانت منافية للإرهاب، وإنما بتعويد الناس على التفكير بعقولهم وتنمية الحسّ النقدي لديهم، وإقناعهم بقيمة الحياة والجمال والخير وكرامة الإنسان وحرمته مهما كان دينه ومعتقده. أما من تعوّد على التقلين والتسليم فيسهل التلاعب بعقله، لا سيما من جانب شبكات الإرهاب النشيطة. لذلك، نرى غالبية الإرهابيين يأتون إما من مستويات تعليمية ضعيفة جدّاً أو، على العكس، من اختصاصات علمية وهندسية قائمة على التلقين ولا تفسح المجال للتفكير في القضايا الإنسانية العامة.

ومقرراتنا المدرسية وبرامجنا الجامعية يمكن أن تضطلع بدور كبير في الحرب ضدّ الإرهاب لو أنها خضعت للمراجعة، لا باتجاه تغيير المضامين، وإنما التخلّص من روح التلقين السائدة.

ثالثاً، ربط الإرهاب بالظروف الاجتماعية فيه تعدٍّ على كرامة الفقراء، الذين قد يفقدون وسائل العيش الكريم لكنهم لا يفقدون أخلاقهم فيقتلون الأبرياء لمجرّد الانتقام من أوضاعهم. فالفقر في الشرق الأوسط كان أكثر كثيراً قبل خمسين أو مائة سنة، لكنْ لم تكن الظاهرة الإرهابية بهذا البروز. ثم هل يوجد مجتمع اليوم يخلو من الفقر؟ وهل الفقر في الشرق الأوسط أشدّ منه في أفريقيا مثلاً؟ إن ربط الإرهاب بالوضع الاجتماعي نوع من التبرير له، بما أنّ الفقر موجود منذ بداية التاريخ وسيبقى إلى نهايته. وهذا لا يعني طبعاً تبرير البؤس والحيف، لأن التصدّي لهما ضرورة قائمة بذاتها وليست مرتبطة بالإرهاب. فلو لم يوجد الإرهاب فإن من الواجب أيضاً العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، ويمكن أن تأخذ الاحتجاجات شكل الإضرابات والاعتصامات والانخراط في الأحزاب العمالية، والعمل في الجمعيات المدافعة عن حقوق الطبقات الفقيرة، وهي لا تأخذ شكل الإرهاب إلا في مجتمعات نخرها فقدان المناعة من الإرهاب.

رابعاً، استعمل الإرهاب منذ أقدم العصور وسيلة حربية «غير تقليدية»، تحضر بصفة محدودة بديلاً عن الحرب المعلنة والصريحة. واستُعمل الإرهاب في الحرب الباردة بين العملاقين، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وارتبط بعشرات الشخصيات والمنظمات المشهورة (كارلوس مثلاً)، لكنه اتخذ منحى جديداً في آخر مراحل الحرب الباردة عندما أصبح يغذّي نفسه بنفسه ويُستعمل في استراتيجيات طويلة وأهداف واسعة، وثبتت منافعه في الحرب الأفغانية (لنتصور لو أن التدخل السوفياتي سنة 1979 أدى إلى حرب مباشرة بين القوتين النوويتين الشرقية والغربية). ومن هنا، نشأت خصوصية الشرق الأوسط: ففيما تقلّصت الحروب التقليدية في العالم مع نهاية الحرب الباردة وتحولت حروباً اقتصادية، ظلّت هذه المنطقة منطقة حروب بالوكالة يتبوّأ فيها الإرهاب موقعاً مهماً. وقد صنّف التقرير الأخير لمؤتمر السلام العالمي (معهد الاقتصاد والسلام، 2015) هذه المنطقة على أنها الأعنف في العالم والأكثر تنوّعاً في إنتاج أشكال العنف (إرهاب، حروب أهلية، نزوح قسري للسكان، اغتيالات سياسية، الخ).

والحروب التي تحصل بين دول يمكن مراقبتها وتحديد المسؤولية فيها، وإخضاعها للقانون الدولي للحروب والمعاهدات والمواثيق الدولية، أما حروب الوكالة المنتشرة في الشرق الأوسط فمنفلتة وماكرة. والأفضل أن تخوض الدول حروباً واضحة المعالم من أن تتواصل حروب الوكالة، التي كثيراً ما تجمّلت بالشعارات البراقة، وأخطرها شعار المقاومة. فهذا الشعار هو بعض من قابليّتنا للإرهاب، لا من باب التشكيك في شرعية المقاومة عندما تستوفي شروطها، ولكن لأنها ابتذلت في الغالب خدمةً للمصالح الضيّقة.

ولئن كانت محاربة الإرهاب قضية أمنية أساساً، ينبغي أن يعهد بها إلى الجيوش وأجهزة الأمن والمخابرات، فإن التوقّي من القابلية للإرهاب مهمة ثقافية واجتماعية يتعيّن على قادة الرأي والمثقّفين ونشطاء المجتمع المدني أن يساهموا فيها بقوّة، وألا يتركوها للخطابات التقليدية التي فشلت فشلاً ذريعاً في معالجتها، بل ساهمت من حيث تشعر أو لا تشعر في تأجيجها، عبر نشر مقولات قابلة لأن تؤوَّل تأويلاً إرهابياً، والتسامح مع هذا التأويل واعتباره من صنف الاجتهاد غير المصيب، بدل تصنيفه ضمن أكبر الكبائر وأخطر الجرائم.