كثيرة هي التغيرات التي تحدث ضمن تفاعلات «ربيع عربي» لم تكتمل فصوله، بل بالكاد بدأت. كان خــــروج جماعـــة «الإخــــوان المسلمين» من الســــاحة السياسية، بعدما ملأت القسم الأكبر منها لعقود عدة في مصر، أحد أبرز هذه التغيرات. لكن دخول السلفيين هذه الساحة ليس أقل أهمية، وهم الذين ظلوا ينفرون من السياسة وُينفَّرون منها نحو قرن كامل منذ تأسيس أول جمعياتهم («الجمعية الشرعية») عام 1914.
وازدادت أهمية هذا التغير عندما التحق التيار الرئيسي في أوساطهم بالمعركة ضد «الإخوان» منذ 3 تموز (يوليو) 2013. وهكذا اختلفت مواقع الإسلام السياسي، والإسلام اللاسياسي، في مصر على نحو يثير أسئلة في مقدمها مدى قدرة السلفيين على ملء الفراغ الذي ترتب على خروج «الإخوان» من الساحة السياسية بعدما اختارت قيادتهم الصدام والعودة إلى حال المحنة والمظلومية.
وعلى مدى عامين سعى حزب النور، الذي يُعد ذراعاً سياسية لجمعية الدعوة السلفية بالمعنى الذي كانه حزب الحرية والعدالة لجماعة الإخوان، إلى ترسيخ حضوره في الساحة الخالية من الجماعة، ومعالجة تداعيات مشاركته في المعركة ضدها على قطاع يُعتد به من كوادره وقواعده ومراجعه في الدعوة. وهو يعتمد في ذلك مزيجاً من الفتاوى المصنوعة في «معامل» جاهزة لإنتاج ما يتطلبه أي موقف، وشبكات رعاية اجتماعية جديدة يؤسسها مستلهماً تجربة «الإخوان» في هذا المجال.
وجاء اجتماع عمومية الدعوة السلفية في 25 تموز (يوليو) الماضي لإعادة ترتيب الأوراق داخل هذا التيار، وإجراء الفرز النهائي الذي تأخر بين من يخوضون المعركة ضد جماعة الإخوان، ومن رفضوا الانخراط فيها وأخذ بعضهم صف هذه الجماعة.
وبمقدار ما كشف هذا الاجتماع وملابساته قدرة جمعية الدعوة السلفية على تجاوز أزمتها وامتلاك قيادتها الفعلية الحالية التي تتمحور حول نائب رئيسها ياسر برهامي، مهارات المناورة، فقد أظهر أن الخسائر التي لحقت بهذا التيار خلال العامين الأخيرين ليست صغيرة، بل قد تكون أكبر مما بدا سابقاً.
كان واضحاً أن شعبية هذا التيار السلفي، الذي حصل على ما يقرب من ربع مقاعد البرلمان في أول انتخابات خاضها، نهاية 2011، تراجعت. غير أن ذلك الاجتماع كشف، فضلاً عن ذلك، أن تعويض هذا التراجع لن يكون سهلاً في المدى المتوسط على الأقل.
فإلى جانب التغير في الأجواء العامة، وفي نظرة قطاع واسع من الرأي العام إلى الإسلاميين بمختلف فصائلهم، كان انخراط تيار الدعوة السلفية وحزبه في المعركة ضد الإخوان مكلفاً لسببين. أولهما انقلابه على بعض أهم «ثوابته»، وبخاصة ما يتعلق بالدستور. فبعد أن ورَّط جماعة الإخوان في معركة أخذتها إلى الهاوية من أجل دستور «شبه ثيوقراطي»، أيد دستوراً «شبه مدني»، بل شارك في وضعه.
كما تبنى مواقف تنطلق من نزعة عملية (براغماتية) تتعارض مع بعض أهم توجهاته الأيديولوجية سعياً إلى البقاء في الساحة السياسية وحماية ركائزه الدعوية. وعلى رغم نجاحه في ذلك، إلا أن «براغماتيته» الفائقة الحالية لم تكف لإقناع الأحزاب الموصوفة بأنها «مدنية» بأنه ليس «حزباً دينياً»، ولا لإزالة هواجس بعض أجهزة السلطة الأمنية ومؤسستها الدينية التي ازدادت شكوكها في دوره القادم من دون أن يمنع ذلك تعاونها معه بأشكال ودرجات مختلفة.
أما السبب الثاني فخسارة هذا التيار عدداً معتبراً من شيوخه وكوادره. وقد تأكد ذلك في اجتماع عمومية الدعوة السلفية، إذ خلا التشكيل الجديد لمجلس إدارتها من بعض أهم رموزها وبخاصة إسماعيل المقدم وأحمد فريد اللذين يُعدَّان أبرز مؤسسيها، وسعيد عبد العظيم الذى كان قد أعلن تأييده الإخوان، ووقع قبل أسابيع ما سُمي «بيان العلماء» الذي تضمن تحريضاً على العنف في مصر.
فقد بلغت الانشقاقات في صفوف مؤسسي هذا التيار وشيوخه الكبار مبلغاً يخصم الكثير من رصيده الشعبي. ففي هذا النوع من التيارات ومنظماتها، يعني انشقاق كل شيخ من الشيوخ الكبار فقدان عدد معتبر من الكوادر والأعضاء والمؤيدين والأنصار الذين يوالونه ويذهبون معه أينما ذهب.
لذلك فقدت الدعوة السلفية وحزبها وجودها كله أو معظمه في عدد من المناطق التي كانت تمثل معاقل أساسية لها، مثل محافظة مطروح، نتيجة اعتزال معظم شيوخها في هذه المحافظة العمل السياسي وعودتهم إلى ما كانوا فيه قبل ثورة 25 يناير التي حملتهم إلى ساحة هذا العمل.
وصار مستحيلاً، في ظل الخسائر التي مُني بها تيار الدعوة السلفية على هذا النحو، أن يكرر حزب النور الاختراق الكبير الذي حققه في انتخابات 2011 ولم يمض على تأسيسه وقتها سوى ستة أشهر. فقد حصل منفرداً على 109 مقاعد بنسبة 21 في المئة من إجمالي مقاعد البرلمان، فيما نال التحالف السلفي الذي قاده في ذلك الوقت (ضم حزبي الأصالة، والبناء والتنمية، ومستقلين) 127 مقعداً، بنسبة 24 في المئة، وحصد نحو 7.5 مليون صوت انتخابي.
فقد أدى تراجع تيار الدعوة السلفية إلى انكماش المساحة التي يتحرك فيها حزب النور مقارنة بما كان وقت تأسيسه قبل أقل من أربع سنوات. ولم يعوض تمدده في جزء من الفراغ الذي تركه الإخوان خسارته الناتجة من فقدانه تأييداً كان يحظى به في مناطق بكاملها.
ومع ذلك، ليس مستبعداً أن يحصل هذا الحزب السلفي على عدد من المقاعد يفوق ما سيناله أي حزب «مدني» في البرلمان المقبل، بل ربما يكون هذا هو الاحتمال الأرجح.
وهكذا يظل من يعتقدون أن التاريخ انتهى عند السلف الصالح في القرن السابع محتفظين بحضور ملموس في القرن الحادي والعشرين على رغم تراجع شعبيتهم، فيما ينكمش حضور من يوافقون الشيخ محمد عبده في قوله، مطلع القرن العشرين، إن «لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، من دون توسيط أحد من سلف أو خلف».
وليس هذا إلا أحد الشواهد على أن مسار الالتحاق بالعصر الحديث ما زال متعثراً في مصر، بل يزداد تعثره فلا يقطع خطوة إلى الأمام إلا ليرجع مثلها أو أكثر إلى الخلف، بعد أكثر من قرنين على بدايته. |