Date: Mar 29, 2015
Source: جريدة الحياة
النرجسية التركية في متاهتها - رستم محمود
بعد نداء عبدالله أوجلان الأخير لإلقاء السلاح ورسالته الشهيرة يوم النوروز، يعترف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن أوجلان فعل كل ما يجب فعله لتحقيق السلام في تركيا. لكنه صرّح، من جهة أخرى، أنه لا «مشكلة كردية» في البلاد، بل ثمة معضلة تخص جميع أحوال البلاد.

ويعترف نائب رئيس الوزراء يالتشين أقدوغان بأن عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني هي قدر تركيا، وأن أحداً لا يستطيع وقفها، بينما يصرخ أعضاء قياديون في حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية التركي المعارضين بأن ذلك سيدفع الكيان التركي إلى حتفه الأخير.

على هذا المنوال تدور جدالات يومية ساخنة في الحياة التركية، الأساس فيها هو الرهبة من الاعتراف السياسي والقانوني والدستوري الحقيقي بوجود هوية سياسية - إثنية كردية في البلاد، مختلفة تماماً عن نظيرتها القومية - الإثنية التركية، وأن تركيا بلد ملون من حيث الجماعات الأهلية المؤسسة له.

تبدو هذه النقاشات مثيرة وتراجيدية بالنسبة إلى القوميين الأتراك، لأنها من طينة نقاشات وأفعال سياسية تهز باطن وعيهم ومنطقهم السياسي لجهة وعي شكل الدولة والكيان التركي، ولأنها من طرف آخر حتمية الحدوث، فهي ليست نتيجة تطور في الذهن السياسي والثقافي للنخبة التركية الحاكمة، بل من إفرازات تطور المسألة الكردية في المنطقة، خصوصاً بعد الربيع العربي والتناقضات الإقليمية والدعم الدولي للقوى الكردية الفاعلة في مواجهة «داعش»، طبعاً بالإضافة إلى النمو الديموغرافي الكبير للأكراد وقدرتهم على إيجاد صلات سياسية في ما بين قواهم السياسية الكبرى في مختلف الدول.

ليس في ذلك ما هو خاص بجماعة سياسية أو مناطقية أو أيديولوجية تركية بعينها، فهذا التناقض بين ما هو متخيل في الذات التركية وما يجب أن تفعل الدولة والقوى السياسية التركية، تناقض يخص جميع النُّخب التركية، بما في ذلك النُخب الثقافية والاقتصادية نفسها. فكلها فريسة ذاكرة و«تربية» ونمط من المنطق والتفكير التقليدي المتفرع من قومية بالغة المركزية والهوياتية، سعت عبر أجيال متعاقبة لتحويل تلك الهوية السياسية القومية إلى دين للدولة والمجتمع والمجال العام كله. وهذا فيما تجري تحولات كبيرة في المنطقة، تهز أُسس تلك المرتكزات.

في الظاهر يبدو أن تيارين سياسيين متمايزين في هذا الشأن: واحد يبدو تغييرياً، بقيادة حزب العدالة والتنمية، يرى أنه على تركيا أن تقبل ببعض التحولات السياسية في الداخل التركي، لتواكب حجم الضغوط والتغيرات التي تجرى في المنطقة، تلك التي يمكنها أن تجر العنف والصدامات الاجتماعية إلى الداخل التركي. يتعهد هذا التيار بتقديم أقل الأثمان، ويقدم ثقة أكبر بالكيان التركي، لكنه في المقابل يصر على عدم تجاوز أية خطوط حمر في «الذات التركية» حول مركزية الدولة والرموز والتعريف القومي للسكان. وهو من طرف آخر يتعهد امتصاص تبعات هذه التنازلات التي يمكن أن تُقدم للقوى الكردية بالتقادم، عبر عملية الاحتواء للقوى السياسية والمجتمعية الكردية في البلاد.

على نقيض ذلك تماماً، ثمة قوى قومية محافظة للغاية، تعتبر أن مواجهة تداعيات ما يجرى في المنطقة، وبالذات ارتفاع الوزن النسبي لأكراد تركيا، هي أسهل طريقة للتعامل مع هذه المجريات، لأن فتح باب أي تنازل صغير من جانب الكيان للقوى السياسية والاجتماعية «الكردية» المتمردة، سيفتح الباب ليس فقط لمزيد من المطالب الكردية، بل سيؤسس عرفا سياسيا لأول مرة، قائما على إمكان خضوع «الدولة» لمطالب المتمردين عليها، وبالذات في مجال ما قد يحدث مستقبلاً في الملفين الإسلامي والعلوي.

يستند هؤلاء المحافظون القوميون إلى سيرة وذاكرة تاريخيتين لرجالات السياسة في الدولة التركية المركزية - القومية منذ التأسيس وحتى الراهن، أي هؤلاء الذين كانوا على الدوام يواجهون كل تمرد بالعصا الغليظة، ولم يقبلوا في أي حال حتى بالتفاوض ولو على شكل قبول الاستسلام، وفق ما عبّر يوماً السياسي التركي المخضرم عصمت إينونو، حينما كانت الصحافة الأوروبية تنشر أخبار المجازر التي تُرتكب بحق العلويين الأكراد في مدينة ديرسم عام 1938، والتي كانت تطالب الحكومة التركية بالتفاوض معها.

يبدو أن عالماً سياسياً وديموغرافياً وثقافياً بات يلف أحوال المنطقة، وأن المحافظين القوميين الأتراك، على مختلف مشاربهم وتصنيفاتهم، هم الأقل قدرة على وعيه والتفاعل معه، بذا سيكون اندراجهم فيه الأكثر قسوة، لأن شكل سلوكهم سيجر أشكالاً من المحافظة والتشدد من بقية الأطراف. وفيما لو انتقل مزاج الرفض هذا إلى الشارع، حين تجرى المفاوضات التركية - الكردية ضمن عملية السلام المرتقبة في الشهور المقبلة، فإن ذلك يعني تماماً أن النرجسية قد تدفع إلى خراب كامل، بالضبط كما يجرى كل مرة.