Date: Mar 29, 2015
Source: جريدة الحياة
من إدلب إلى درعا: إنه كثير الثقوب - عمر قدور
الانتصارات التي حققتها كتائب من ثوار درعا جنوباً، في بصرى الشام، وتلك التي حققتها مجموعة من الفصائل يغلب على معظمها الطابع الإسلامي في إدلب، قد لا تعدو كونها تفصيلاً عابراً في الصراع السوري. السيطرة المتواصلة على الأرض لم تعد، باستثناءات معروفة، متاحة لأحد الطرفين، وثمة كرّ وفرّ متواصلان على الأقل منذ سنتين، وأيضاً ثمة تبادل لمواقع السيطرة بحيث لا تتأثر بشكل ملحوظ النسبة الكلية منها.

الجديد، معنوياً هذه المرة، تحقق الانتصارات في وقت يُظهر فيه النظام وحلفاؤه ارتياحهم إلى تقدمهم الميداني المزعوم، بخاصة في ظل دعم دولي وإقليمي يتدنى باطراد للقوى المناوئة للنظام.

ولن نشهد جديداً إذا خرجت مدينة إدلب نهائياً عن السيطرة بعد خروج معظم ريفها، فالنظام سيعمد إلى قصفها وتدميرها أسوة بكل المدن التي أرغم على فقدانها، والكتائب الإسلامية لن تقدّم نموذجاً يدعو إلى التفاؤل في إدارة مناطق سيطرتها الجديدة. مع ذلك، التكرار قد يكون مفيداً أحياناً، فإنزال هزيمتين بقوات النظام في الوقت نفسه، بينما يتظاهر بقرب انتصاره، ومن ثم بقائه، بمباركة دولية، يخلخل ثقته تلك على مستويين: فالدعم الذي حضر على نحو غير مسبوق لم يفلح في تغيير موازين القوى على الأرض، وتخلي القوى الدولية عن دعم المعارضة أمر لا يمكن البناء عليه طوال الوقت، لأنها قد تستأنف دعمها «المحدود» في أية لحظة من الصراع.

بعبارة أخرى، لقد خيبت إدارة أوباما آمال المعارضة السورية، وذلك لا يعني ألا تخيب في المقابل الآمال المعقودة عليها من حلف الممانعة.

وعلى رغم أن انتصارات كتائب المعارضة والقوى الأخرى المناوئة للأسد، لم تأخذ سابقاً صدى إعلامياً ضخماً، كذلك الضجيج الذي يرافق عادة أقل نصر يحققه هو أو حلفاؤه، فما يجري بصمت أو وسط تجاهل دولي هو عدم قدرته على السيطرة سوى على ما يقارب نصف مساحة الأراضي السورية، في أقصى حالات قوته وفي أقصى أنواع الدعم الخارجي الذي حصل عليه حتى الآن. الوضع الميداني لنظام «البراميل المتفجرة» هو في الواقع أشبه ببرميل صدئ كثير الثقوب، وما أن يسد الحلفاء ثقباً منه حتى ينفتح ثقب جديد. إن أسطورة «صمود» النظام خلال أربع سنوات، تتجلى في عدم سقوطه فحسب، وفي معاندة القوى الدولية والإقليمية واقع انتهاء صلاحيته على المستوى الذي كان يُعدّ إلى وقت قريب أكثر ما يميزه، أي المستوى الأمني والعسكري.

المشكلة منذ وقت طويل لم تعد في اعتماد النظــــام وحلفائه الحلّ العسكري والمخابراتي لقمع الثورة. الوجـــه الآخر مــــن المشكـــلة يتجلــــى فــــي «الثقة» الدولية الممنــوحة لمخابرات النــــظام وقواته، على رغم فشلهما المتـــكرر في قمع السوريين، وهذه الثقة لم تتقوض طيلة السنوات الأربع الأخيرة، وهي التي تُبنى عليها فرضية الحل السياسي بمشاركة النظام.

في الواقع، لم تبقَ في سورية مؤسسات، إن على صعـــيد البنى التحتية أو على صعيد الهيكلية والأداء، وبقاء مؤسستي المخابرات والجيش فاعلتـــين في الحد الأدنى أتى بدعم خارجي غير مسبوق، ولو تعرضت الحلقة الضيقة لأي خطر جـــدي لانهارتا كما حصل في العراق، وربما على نحـــو أكثر دراماتيكية. لذا، الحل السياسي الذي يُروّج له، يبدو من هذه الوجهة كأنه يطالب السوريين الذين عانوا عقوداً من وحشية الأمن والعـسكر، بأن يتبرعوا الآن بالمساعدة للحفاظ عليهما، بعد فشل المحاولات الإقليمية والدولية.

للتعمية على وضع البرميل المثقوب، يحضر غالباً السؤال عن البديل «الناجز»، ليحضر الاستنتاج اللاحق بألا بديل عن دعم الأول باعتباره موجوداً بالفعل، وسبق اختبار التعاون معه من جانب أجهزة مخابرات دولية. الطامة هنا ليست في التغاضي عن ضحايا النظام الأمني من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين. هذه ليست لا أخلاقية فقط، هي إما من الغباء أو من استغباء الآخرين سياسياً، إذ يمكن لأي عاقل احتساب كلفة الإبقاء على النظام حتى الآن ومقارنتها بكلفة سقوطه والوصول إلى استنتاجات مغايرة. طبيعة الغباء أو الاستغباء تكمن في تصوير سقوط النظام الأمني كانهيار تام للبلد، وكأن أية سلطة مقبلة ستحلّ أجهزة المخابرات والجيش والشرطة لتبقي البلد في حالة من الفوضى التامة، أو كأن محاربة التطرف مهمة أزلية وأبدية لهذا النظام بعينه ولا يمكن لأي بديل القيام بها.

الأهم من ذلك كله، أنه لو بُذل قسم ضئيل من محاولات إعادة تأهيل النظام، أو محاولات منع سقوطه، لتأهيل كوادر جديدة، لكانت النتيجة مضمونة أكثر من اللهاث لسد الثقوب المتكاثرة.

أمام الاحتمال الأخير، ستحضر المقولة «الذهبية» التي تنص على أنه ليس من واجب العالم القيام بما علينا القيام به، أي ليس من واجبه تأهيل البديل، لكن تلك المقولة تصحّ فيما لو ترك العالم سورية لصراعها الداخلي ووقف على الحياد منه، ولا تصح عندما تعترف جهات «من أصدقاء النظام والمعارضة» بدورها في منع سقوطه. فضلاً عن ذلك، لا تصحّ عندما يتبرع سريعاً العالم بتدريب سوريين على مهمة التفاوض مع النظام لمناسبة مؤتمر جنيف 2، ويتلكأ ويسوّف في تدريب القوة التي يريدها هو شريكةً في مكافحة الإرهاب.

وينبغي التفريق دائماً بين مقتضيات السلوك السياسي والذرائع التي تُساق لتبريره، فإذا تـــواطأت المـــصالح الدولية على دعم نظام متهالك فذلك لن يغيّر من طبيعته، وفي أحسن الأحوال يكون وصفة لإدامة زمن الصراع، وفي أحــد الجــوانب جذريةً تكون الإطالة استنزافاً حتى للعـــناصر التــــي كانت «ربما» تملك مستوى من المعقولية والقدرة على البقاء في النظام نفسه.

غالب الظن أننا نادراً ما نشهد حالة مماثلة من معاندة الواقع، حالة تتطابق مع ما يوصف به النظام من انفصال عنه. فلو امتلك مؤيدو النظام ثقلاً وعقلانية كافيين، لعزلوا قياداته لعجزها وفشلها التامّين منذ اندلاع الثورة، ولو امتلك حلفاؤه قدراً من العقلانية لقبلوا بالتسوية وبتقديم التنازلات بدل المقامرة بمصالحهم برمتها. أخيراً، أطرف ما في الأمر أن يُلام السوريون لأنهم لم يقدّروا قوة النظام كما يجب، وهو لوم سيبقى وجيهاً طالما بقي في البرميل مكان لثقب جديد.