| | Date: Dec 13, 2018 | Source: جريدة الشرق الأوسط | | استمرار التصعيد الروسي ـ الأميركي في سوريا | موسكو: رائد جبر
لم يعد ممكناً النظر إلى الوضع في سوريا مع احتدام المواجهة الروسية - الأميركية في هذا البلد، من دون تناول المشهد على اتساعه... وملاحظة أن الأزمة السورية التي كان ينظر إليها لسنوات على أنها ليست الحلقة الأصعب في تعقيدات العلاقة الروسية - الأميركية، لم تعد الساحة التي يمكن أن تشكل نقطة انطلاق لتثبيت مجالات للتعاون بين البلدين قبل الانتقال إلى التسويات الكبرى، وفقاً لما لمح إليه الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال قمة هلسنكي.
هذه الرؤية اتفق عليها أكثر من خبير روسي خلال ندوة تناولت العلاقة الروسية - الأميركية أخيراً. وهي تعكس بجلاء أن الرهان السابق على الانطلاق من تفاهمات معينة في سوريا لوضع آليات أوسع للحوار بين البلدين، لم يعد قائماً.
وأظهرت الأسابيع الأخيرة تصاعداً متسارعاً في الاتهامات المتبادلة بين موسكو وواشنطن حول الوضع في سوريا، واتخذت الاتهامات أبعاداً خطرة في أكثر من موقع، دفعت بعض وسائل الإعلام الروسية إلى الشروع في وضع سيناريوات مواجهة مباشرة محتملة بين الطرفين، والاستعانة بخبراء عسكريين وسياسيين للتدليل على مدى تفاقم الوضع الراهن.
واتسعت مروحة الاتهامات الروسية لواشنطن؛ من تشجيع النزعات الانفصالية ومحاولة تأسيس كيان خارج عن سيطرة دمشق في منطقة شرق الفرات، إلى المساعدة على تهريب النفط السوري إلى تركيا والعراق، إلى حماية «إرهابيين في مخيم الركبان»، و«التغطية على إرهابيين آخرين في إدلب»، وصولاً إلى محاولات تعقيد مسارات التسوية السياسية وعرقلة خطط موسكو لتحقيق تقدم على مساري «عودة اللاجئين» أو «إعادة الإعمار».
وأخيراً، حمّلت وزارة الخارجية الروسية واشنطن المسؤولية عن الظروف المعيشية في «مخيم الركبان» للنازحين ووصولها إلى «شفا كارثة إنسانية».
وأشارت الخارجية إلى أن هذا الوضع «نتيجة لتجاهل الولايات المتحدة السافر أعراف القانون الدولي»، وأنها تعد مسؤولة عن الوضع في المنطقة حول مدينة التنف السورية التي «تحتلها الولايات المتحدة بصورة غير شرعية».
قبل ذلك كانت موسكو اتهمت الأميركيين بتسليم إرهابيين في «الركبان» مهمة توزيع المساعدات الإنسانية في «الركبان»، مما منحهم فرصة إضافية للتحكم في المساعدات وبيعها أو إجبار المواطنين على دفع إتاوات في مقابل الحصول عليها.
ويرى فريق من الخبراء أن تصاعد المواجهة الحالية مع واشنطن، يعكس قناعة لدى الطرفين بأنه لا بد خلال المرحلة المقبلة من دفع المسار التفاوضي في جنيف، مما يعني أن التصعيد الحالي يهدف إلى تحسين الظروف التفاوضية لكل طرف قبل الوصول إلى الاستحقاق السياسي.
لكن هذا الرأي يقابل بكثير من التشكيك لدى أطراف كثيرة بين الباحثين والمتابعين والأوساط البرلمانية وحتى وسائل الإعلام التي أشار بعضها إلى أن «المواجهة بين موسكو وواشنطن باتت تتخذ شكلاً أكثر اتساعاً وشمولية، وبعداً طويل الأمد بعدما كانت موضعية وقصيرة الأمد حتى وقت قريب في سوريا».
وكان ملاحظاً أن موسكو تجاهلت إشارات واضحة من واشنطن إلى السعي لتقويض مساري «آستانة» و«سوتشي»، والدفع باتجاه العودة إلى «مسار جنيف». ورأت مصادر روسية أن التجاهل تعمد عدم فتح باب للنقاش الدولي حول الموضوع، خصوصا أنه يتزامن مع انتهاء ولاية المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الذي عبر بوضوح عن عدم رضاه عن الجولة الأخيرة من آستانة ورأى أن الشعب السوري فقد فرصة كبيرة بسبب فشلها.
ومع أن كثيرين في موسكو يرون أن الطرح الأميركي أصلا «ليس واقعيا» لأن الأطراف الفعالة بشكل مباشر في الملف السوري حريصة على عدم تقويض مسار آستانة، فإن صمت موسكو هنا، ومسارعتها إلى الرد على كل تعليق يصدر عن واشنطن حول سوريا في ملفات أخرى، عكسا أن موسكو تدرس المجالات المتاحة في ظل جمود العملية السياسية وتفاقم المواجهة مع واشنطن ولا ترغب في تصعيد إضافي على صعيد احتمال إعادة الملف إلى مجلس الأمن.
لكن الأهم من ذلك، وفقا لتقديرات الخبراء الروس، أن التطورات الأخيرة على صعيد السجالات الروسية - الأميركية عكست تحولا أساسيا في آليات التعامل مع الملف السوري، بشكل يؤسس لمزيد من التعقيد في مواجهة الأزمة، وتحولها إلى عقدة أساسية في مشهد متشابك. وهذا ما أظهره تنبه الروس فجأة إلى أن واشنطن تعمل على تعزيز وجودها العسكري في قبرص، والتنبيه من أن هذه الجهود سوف تقابل بتحركات عسكرية روسية. ووفقا لوزارة الخارجية الروسية، فإن خطط واشنطن في قبرص تهدف إلى «إقامة توازن بعد النجاحات التي حققتها روسيا في سوريا».
ونظر كثيرون في روسيا إلى التصعيد القوي مع أوكرانيا بعد أزمة احتجاز السفن الأوكرانية في بحر آزوف، على أنه يدخل في سياق «تصعيد المشهد كله» بشكل مترابط، مما يجعل كل ملف فيه مؤثرا على الملفات الأخرى، وهذا برز من خلال المطالبة الأوكرانية التي سبقتها مطالب أميركية مماثلة بفرض قيود على تحركات السفن الروسية في الموانئ الأوروبية، بهدف «حرمانها من حرية الحركة العسكرية وإفقادها القدرة على السيطرة على موارد الطاقة من منطقة الشرق الأوسط». هنا أيضا برز الربط المباشر مع الوجود العسكري الروسي في سوريا!
بين هاتين الحالين، يراوح الموقف الروسي في الدفاع عن الوجود الإيراني في سوريا، وتأكيد التحالف مع طهران، والمضي بخطوة أوسع نحو تحدي العقوبات الأميركية ووضع خطط لتصدير النفط الإيراني عبر الشركات الروسية. في المقابل، يبرز الفتور الروسي تجاه محاولات إسرائيل تجاوز أزمة إسقاط الطائرة الروسية في سبتمبر (أيلول) الماضي. ورفض الكرملين عدة محاولات لعقد لقاء يجمع الرئيس فلاديمير بوتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كان أحدثها محاولة لتنظيم لقاء بعد قمة العشرين. وتعمدت موسكو عدم تقديم إيضاحات حول نتائج زيارة وفد عسكري - أمني أرسلته تل أبيب أخيرا في مسعى لتوضيح موقفها والاتفاق على آليات تنسيق جديدة في سوريا، واللافت أن نتنياهو أعلن أثناء وجود الوفد في موسكو أن تل أبيب لديها الحق في توجيه ضربات إلى مواقع إيرانية تشكل خطرا عليها في سوريا. عكس هذا التصريح أن جهود تطبيع العلاقات ما زالت تقابل بفتور من جانب موسكو.
لا يختلف محللون روس على أن التسوية في سوريا ما زالت بعيدة، وأن تعقيداتها تزداد تشابكا، وأنها ليست في طريقها إلى الحل تحت تأثير موازين القوى كما كانت موسكو تأمل، لكن الإضافة التي تحملها التطورات الأخيرة، أن سوريا لم تعد ملفا منفصلا يمكن أن يشكل بوابة للتقارب مع واشنطن؛ بل غدت جزءا من مشهد معقد يمتد من أوكرانيا عبر أوروبا إلى قبرص وإسرائيل وإيران. | |
|