Date: Mar 11, 2018
Source: جريدة الحياة
حرب سياسية شعبية شرسة في مصر فجّرها وثائقي وأجّجها التواصل الاجتماعي
القاهرة – أمينة خيري 
الحرب الإعلامية السياسية الشعبية الضروس الدائرة رحاها بين «بي بي سي» ومصر بشقيها الرسمي وجانب من الشق الشعبي سابقة لا شبيه لها. فالخلاف الصاخب الواقع بين مصر ممثلة في أجهزتها الرسمية وجانب كبير من ظهيرها الشعبي الداعم من جهة، ومؤسسة «بي بي سي» العريقة القديمة المعروفة بمهنيتها والشهيرة بدقتها والمتبعة قواعد الإعلام المهني بحذافيره على مدى عقود من جهة أخرى، كشف الستار عن احتقانات متراكمة على مدار السنوات الخمس الماضية.

فمنذ ثورة 30 حزيران (يونيو) عام 2013، ونزول ملايين المصريين إلى الشوارع للمطالبة بإنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين ممثلة في الدكتور محمد مرسي، والاحتقان متصاعد. جانب كبير من الإعلام الغربي تعامل مع عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، ووصول الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي إلى الحكم باعتباره «انقلاباً عسكرياً على أول رئيس منتخب أتت به الصناديق»، وهو ما أزعج السلطات المصرية والمصريين من المؤيدين للسيسي والمناهضين للحكم الديني.

مهنية «بي بي سي» التي تدفعها دائماً إلى تحري الدقة من جهة، واتباع الحياد من جهة أخرى أغضبت كثيرين من متابعيها في مصر، حيث استشعروا مبالغة واضحة في استخدام عبارة «الانقلاب العسكري» مع الإفراط بمناسبة ودون مناسبة في نشر موضوعات وتغطيات عن التقارير التي تصدر عن منظمات حقوق الإنسان، والتي تصنف دول العالم بحسب احترامها أو انتهاكها لحرية التعبير والتجمهر والتظاهر. وعلى رغم أن هذه التقارير تحوي كل دول العالم، إلا أن التركيز على مصر أزعج كلاً من السلطات والمؤيدين من المتابعين.

لكن أعداد المتابعين تقل كثيراً عن أعداد غير المتابعين من المكتفين بما يبثه الإعلام المصري المحلي، وهو ما أبقى على الغضب أو عدم الارتياح تجاه ما رآه البعض تحيزاً متخفياً وراء ستار المهنية وتربصاً خلف قناع الحيادية محدوداً.

مواقع التواصل الاجتماعي قادرة على تحويل الحدود الضيقة إلى آفاق رحبة. فمنذ نشر وبث «تقرير زبيدة» وما تلاها من حرب ضروس، ومواقع التواصل الاجتماعي مشتعلة بحراك إعلامي منقسم بين صب اللعنات على رأس «بي بي سي» أو محاولة تبرئتها بكل الوسائل. فقبل أيام بثت «بي بي سي» وثائقياً مصحوباً بتقرير منشور على موقعها عن سيدة مصرية ادعت أن ابنتها «مختفية قسرياً منذ شهور، وأنها تعرضت لتعذيب واعتداءات جنسية وحشية على أيدي الأمن المصري. وجاء في التقرير أن السيدة وابنتها «المختفية قسرياً» تصادف مرورهما أثناء تظاهرة إخوانية، وإنهما لا علاقة لهما بالجماعة من قريب أو بعيد. وتفجرت المفاجأة بظهور الابنة «المختفية قسراً» على شاشة التلفزيون المصري مع الإعلامي عمرو أديب ومعها زوجها ورضيعها المولود قبل أسبوعين. وقالت «زبيدة» إنها لم تكن مختفية، بل إنها تزوجت وأنجبت وإنها لم تر أمها طيلة الشهور الماضية. وقالت كذلك إنها ووالدتها أقامتا لبضع أيام في اعتصام النهضة الإخواني في عام 2013.

هذا الظهور لـ «زبيدة» بعد أيام معدودة من تقرير «الاختفاء القسري» (الذي بات معتاداً في وسائل إعلام غربية وإقليمية عدة) نتج منه ملايين المشاهدة لتقرير «بي بي سي» ومقابلة زبيدة على الشاشة المصرية. ومع الـ «شير» وإعادة التحميل» والتعليق والتغريد وإعادة التغريد والتدوين تحول الأثير العنكبوتي بعد التلفزيوني إلى ما يشبه الحرب النووية الإعلامية.

فبين مغردين متبنين هاشتاغات تسخر من «بي بي سي» ومهنيتها وأخرى تطالب بمقاضاتها وثالثة تدعو المصريين إلى الاصطفاف الوطني بعد ما تم فضح المختبئين وراء المصداقية من جهة، وأخرى تدافع عن «بي بي سي» وما جاء في تقريرها ومرجحة أن تكون «زبيدة» ظهرت بضغط من الأمن أو باتفاق معه، تحول المشهد إلى حالة استقطاب عنيفة. الغالبية المطلقة من الساخرين والغاضبين من «بي بي سي» مؤيدون للرئيس السيسي، وغالبية المدافعين عن التقرير وزبيدة وأمها من المعارضين له.

لكن اللافت هو أن الحرب المشتعلة صارت حربين: الأولى على متن الإعلام التقليدي وفي الدوائر الرسمية، والثانية على مواقع التواصل حيث قدر أرحب من التعبير والكشف عن الآراء والتوجهات. فمثلاً مقالات الرأي التي كتبها كتاب مصريون ينتقدون فيها أداء «بي بي سي» منذ عام 2013 وصولاً إلى «تقرير زبيدة» يتم تداولها عنكبوتياً إما للدلالة على عدم مهنية «بي بي سي» وتربصها بمصر، أو للسخرية من الإعلام الداعم لمصر. كما يجري تداول مقالات لكتاب لا يرون في تقرير «بي بي سي» مشكلة كبرى، مشيرين إلى أن السقطات والأخطاء تقع في كل وسائل الإعلام، ومطالبين الجمهور بالهدوء لحين اتضاح الرؤية. وبالطبع يتناول رواد مواقع التواصل الاجتماعي أصحاب هذه التوجهات إما بالانتقاد والاتهام بالعمالة أو بالتعقل والتشبث بالهدوء.

لكن الهدوء منظومة غير واردة في عصر تداول الأخبار (بغض النظر عن صحتها) وإعادة تشارك الآراء (سواء كانت منطقية أو خزعبلية) وإعادة البث والنشر، لا سيما إن الأمر تطور وبات مواجهة بين دولة وكيان إعلامي.

يشار إلى أن الحرب المستعرة بين مصر و»بي بي سي» ليست سابقة في المواجهات بين دول وكيانات إعلامية. فهناك مثلاً على سبيل المثال لا الحصر المواجهة الضارية بين الولايات المتحدة الأميركية وقناة «الجزيرة» القطرية قبل نحو 13 عاماً. وقتها كانت مواجهة صادمة، إذ بدأت بـ «شهر عسل» قصير بين الدولة والقناة سرعان ما انتهى بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2011. فـ «الجزيرة» قدمت نفسها منذ تأسيسها في العام 1996 على أنها «عامل من عوامل التغيير في العالم العربي الذي تسوده قوى الجمود». أما الإدارة الأميركية فكانت عقدت العزم على «جلب الحرية لهذا الجانب من العالم (الدول العربية) بالقوة إن لزم الأمر.

هذه العلاقة- كما يؤكد مدير مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون الأميركية مايكل هدسون في دراسة أجراها في عام 2005، ليست مجرد علاقة حب– كراهية. كما أنها لم تكن علاقة جامدة. ففي البداية، قوبلت «الجزيرة» بترحاب أميركي شديد. فهي مؤسسة على غرار النموذج العربي للـ «بي بي سي»: كما أنها كانت تستضيف إسرائيليين في برامجها.

لكن «شهر العسل» انتهى فجأة بعد أحداث 11 أيلول، والغزو الأميركي لأفغانستان، وتحديداً حين أذاعت المحطة شريط فيديو مصوراً لأسامة بن لادن. لقد هز الأميركيون رؤوسهم تأييداً وموافقة حين انتقدت «الجزيرة» الأنظمة العربية، بل إنهم شجبوا الحكومات العربية التي بدأت في مضايقة مسؤولي «الجزيرة». ولكن حين أظهرت المحطة أميركا من زاوية غير مرغوب فيها (أميركياً)، وحين بدأ معلقوها ينتقدون أميركا، لم يتحمل ذلك الرئيس الأسبق جورج بوش.

ووصل الأمر إلى درجة أن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد قال في آب (أغسطس) عام 2004 إن «التغطية الإعلامية للإعلام العربي مثل «الجزيرة» و «العربية» أفسدت الكثير من المبادرات الأميركية في الشرق الأوسط»، وأضاف: «إنهما أقنعتا الكثيرين بأن الولايات المتحدة في العراق قوة احتلال، وهذه أكذوبة». وتردد وقتها أن الرئيس بوش كان فكر في قصف مقر القناة، إلا أن ذلك لم يتأكد.

لكن المؤكد أن العلاقات تحسنت كثيراً في السنوات التالية لأن المصالح تبدلت والأحداث تغيرت ورياح الربيع هبت! ومع الهبوب يأتي الصمود في وجه محاولات التربص الإعلامي الغربي (بحسب ما يراه البعض) وجهود النيل من حرية الصحافة وفرض المزيد من التضييق على الحريات (كما يراه البعض الآخر).

أزمة «بي بي سي» المتفجرة من رحم الإعلام التقليدي من وثائقي الشاشة وتقرير الموقع الإلكتروني والمنشطرة آثارها في كل وسائل الإعلام المصري المقروء والمرئي والمسموع ومنه إلى مواقع التواصل الاجتماعي حيث لا سبيل إلى السيطرة أو مجال لفرض الهيمنة ما زالت تتصاعد. الهيئة أعلنت أنها ستناقش الشكوى المقدمة من قبل هيئة الاستعلامات المصرية، والتي تطالب «بي بي سي» بالاعتذار الفوري حول كذب ما ورد في الوثائقي والتقرير. وقالت في بيان باهت إنها «تساند مصداقية العمل الصحافي لفرقها الإعلامية». بل أن رئيس الهيئة السيد ضياء رشوان دعا المسؤولين والشخصيات العامة إلى مقاطعتها «بعد ثبوت كذب تقرير الاختفاء القسري المليء بالأكاذيب». ووصل الأمر إلى درجة انتقاد وزير الخارجية المصري السيد سامح شكري «اعتماد وسائل الإعلام على مصادر مختلقة لأغراض سياسية» وذلك أثناء كلمته أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي انعقد في جنيف الأسبوع الماضي.

وبغض النظر عما ستؤول إليه الحرب الحالية، فإن الدرس المستفاد هو أن المواجهات الشرسة ليست حكراً على المنصات العسكرية، بل امتد لينبع بعضه من المنصات الإعلامية. وما كان يعتقد أنه مادة إعلامية لا تصل إلا إلى المتابعين، تحول مادة شعبية يتحدث عنها الجميع بفضل أو بفعل مواقع التواصل الاجتماعي. حتى قواعد المهنية وأسس العمل الصحافي المهني التي تشتهر بها مؤسسات عدة، لم تعد من الأمور المسلم بها والمفروغ منها بل أصبحت قيد الانتقاد الشعبي والرد الرسمي.