Date: May 17, 2011
Source: جريدة الحياة
مصر وتونس: عبَر تاريخية للدستورين الجديدين - روجر أوين

تشهد كلّ من مصر وتونس حالياً ما اعتبره المؤرخون الحقوقيون الأميركيون لحظة. إنها الفترة التي تأتي مباشرة في أعقاب الإطاحة بنظام ديكتاتوري، فيما تسعى الثورة الشعبية المنتصرة إلى ترسيخ مكانتها من خلال إنشاء البنى الدستورية الضرورية الكفيلة بدعم شكل جديد من أشكال الحياة السياسية التعددية.
لقد حلّت لحظات مماثلة في أجزاء مختلفة من الشرق الأوسط قبل الآن، ولا سيّما في تركيا وإيران في العقد الأول من القرن العشرين، ناهيك عن مصر في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وتكرّرت هذه الظاهرة في ما بعد لكن بشكل أكثر محدوديّةً في بعض البلدان العربية في مستهل فترة الاستقلال في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.
ومن الممكن استخلاص عبر كثيرة من تاريخ هذه اللحظات.


كان الهدف الرئيس الذي وضعه فقهاء الدستور الأوائل هو الحدّ من السلطات المطلقة المناطة بالحاكم، وذلك من خلال إنشاء نظام ليبرالي ينطوي على ضوابط وموازين. لكن المحزن أنه بنتيجة الصعوبات العديدة التي ينطوي عليها الأمر، غالباً ما أتاحت عملية صياغة الدستور للحاكم الحصول على سلطة أكبر من تلك التي يفترض أن يحظى بها، بحيث أن الملك في مصر تمتع مثلاً في عام 1923 بحق حيوي يخوّله حلّ البرلمان، واستخدمه مراراً لمنع حزب الوفد من ترجمة شعبيته الهائلة إلى نفوذ سياسي فعلي.
أما الاكتشاف الذي اعتُبر بمثابة العقاب الأكبر حجماً فهو أنّ هذه الدساتير الأولى لم تكن في مأمن من الأشخاص الذين كان يُفترض أن يكونوا الأكثر تأييداً لها. ومن جديد، توفّر مصر خير مثال على ذلك، إذ راح أعضاء من «الحزب الدستوري الليبرالي»، حزب «الأمّة»، يطالبون بتعديلات دستورية تهدف إلى تعزيز فرص انتخابهم، ما يثبت واقعاً يفيد، وفقاً للمؤرخة عفاف لطفي السيّد، أنهم لم يكونوا يوماً لا ليبراليين ولا دستوريين في الصميم. وما ساعدهم هو السهولة التي أمكن بها تعديل الدستور، إذ كان يكفي أن يحصلوا على ثلثي الأصوات في مجلسي البرلمان المصري، بدلاً من اللجوء الى استفتاء شعبي كما هو معمول به في الولايات المتحدة.


وتقدّم الدساتير الثورية التي نشأت في بداية حقبة الاستقلال مجموعة أخرى من العبر. فمن جهة، غالباً ما كان الرئيس يصيغها بنفسه بهدف التمتع، شأنه شأن كبار الأعضاء في الدولة، بنفوذ كبير على ذراعي الحكومة. ومن جهة أخرى، أتاح التذرّع بالاحتكام إلى إرادة الشعب تطبيق هذه الإجراءات، الأمر الذي سمح للرؤساء العرب في الواقع بتبرير معظم ما كانوا يرغبون في تحقيقه. وعلى سبيل المثال، لجأ عبد العزيز بوتفليقة إلى هذه النظرية ليدعم إزالة العائق الدستوري الذي يحظّر على الرئيس الحكم لأكثر من ولايتين في الجزائر، فقال إنّه دعي من شرائح الشعب كافّةً للاستمرار في مهمته ... وإن الجميع يدرك أنه لا يستطيع التغاضي عن هذه الدعوات الملحّة.
ولا عجب في أنّ الرؤساء العرب لمدى الحياة، أمثال حسني مبارك وزين العابدين بن علي، تمسّكوا بضراوة بهذه النظرية إلى حدّ أنها طغت على النظام الدستوري القانوني، لا سيّما حين بدأوا يدركون أنّ الاحتكام إلى الشرعية الثورية الأصلية لنظاميهما لم يعد يجدي نفعاً. ولا عجب أيضاً في أن يستمر الرئيسان السوري واليمني اللذان يواجهان صعوبات في التحدث باسم شعبيهما، فيقول أحدهما إنّ الشعب السوري «يحب الاستقرار» فيما يعلن الرئيس الثاني أنّ الشعب اليمني «يحبني».


لكن من الواضح أيضاً أنّ الجهود المبذولة حالياً من أجل استبدال الدساتير العربية القديمة والفاسدة بأخرى جديدة تعطي شرعية حقيقية للشعب، تعترضها مجموعة من المشاكل في إطار سعيها إلى توجيه حماسة الشعب الثورية نحو إنشاء مجموعة من الحقوق والقوانين والواجبات التي تدخل في إطار المؤسسات المحترمة والتي تعتبر ضرورية لتوفير التشجيع والحماية للشعب. وهنالك من جهة مجموعة كاملة من التوقعات الشعبية غير الواقعية تشمل الاعتقاد بأنه يمكن إرساء نظام جديد بسرعة فائقة. ومن جهة أخرى، ثمة صعوبات عملية تقف في وجه إشراك عدد هائل من الناس، ممن يعيشون في المدن والقرى على حدّ سواء، في عملية صياغة الدستور، سواء بشكل مباشر أو عبر نظام جديد يفرض تمثيلاً شعبياً أو جماعياً.
وتعتبر الخطوات التي تمّ اتخاذها لمعالجة هذه المشاكل في مصر وتونس غاية في الأهمية. فهي تتضمن أولاً إنشاء آلية لتوجيه العملية برمتها وقيام مجلس أعلى للقوات المسلحة في مصر ولجنة عليا لتحقيق الأهداف الثورية والإصلاح السياسي والانتقال إلى الديموقراطية في تونس، إلى جانب وضع إطار زمني متفق عليه لانتخاب رئيس وبرلمان ومجلس دستوري. ولكلّ خطوة من هذه الخطوات نقّادها مع العلم أنها تسببت بنقاش وجدل حادّين، إلا أن دعماً كافياً ظهر لتطبيق العملية كلها، ولو بصعوبة.


وإذا قارنّا ذلك باللحظات الدستورية المماثلة الأخرى، نجد أنّ هذا ما يتمناه المرء بالضبط وما ينتظره الأشخاص المتفائلون. وهي لحظات تشارك فيها أكثرية الشعب في عملية إنشاء نظام سياسي جديد وتكون مستعدة لاعتماد نظرة متجرّدة نسبياً حيال السياسة العامة. كما أنها لحظات يُعتبَر من المنطقي فيها توقع استدامة الطابع الإيجابي لمجرى الأمور لوقت طويل كفاية لإنجاز العملية برمتها.
ولنأمل أن تتبلور النتيجة النهائية، على ضوء الخبرة الدستورية العربية، في إنشاء وثيقة مصرية وتونسية محترمة، يفسرها النظام القانوني المستقل عبر اعتماد وسائل غير متحيزة وتحتوي على بنود تحول دون تعديلها بصورة مبكرة لأهداف حزبية سياسية بحتة. ويعتبر هذا هدفاً أسمى. إلا أن الجميع في مصر وتونس يعرف أنّ تحقيقه سيبعث بإشارة مهمة إلى سائر العالم العربي وإلى المجتمع الدولي عموماً.
تعتبر الجملة الأولى من دستور الولايات المتحدة، وتقول «نحن الشعب»، بمثابة الإعلان الملفت الذي يدل على مدى مشاركة الشعب والشرعية الشعبية التي يأمل العلماء الدستوريون في بلوغها. وهذا لا يعني أن الشعب الأميركي برمّته أو بمعظمه أدّى دوراً، أو أمكنه أن يؤدي دوراً، في عملية صياغة الدستور الأميركي. إذ أنه كان يجهل، بمعظمه، ما يجري، في حين أنّه تعذّر على آخرين كثيرين فهم التصريحات ذات الغايات النبيلة التي يتم إدراجها في هذا النوع من الدساتير. إلا أن المؤرخين الأميركيين يوافقون بمعظمهم على أن الحماسة العامة إزاء هذا الدستور أنشأت انطباعاً حقيقياً بأنه نابع من إرادة الشعب وبأنه يجب بالتالي احترامه والاحتكام إليه.


* أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد