Date: May 15, 2011
Source: nowlebanon.com
المخاض العربيّ طويل - نصير الاسعد

من نافل القول إنّ المنطقة العربيّة تشهد، منذ مطلع العام الجاري، مخاضاً إستثنائياً نحو التغيير، وإنّ سقوط "جدار برلين" العربيّ هو البداية وليس النهاية. والحقيقة أنّ المقارنة بينَ مخاض المنطقة الذي بدأ بإسقاط جدار الخوف من جهة وبينَ المخاض في أوروبا الشرقيّة الذي تلى سقوط جدار برلين من جهة ثانية، هي – أي المقارنة – من أجل التنبيه إلى عدم التعجّل والإستعجال ومن أجل "وعي" أنّ أمر التغيير سيستغرق وقتاً وليس مسألة أيّام وأسابيع. ذلك أنّ عقوداً من الديكتاتوريّة والقمع بإسم "قضيّة" هنا وهناك، وما ترتّب عليها من بُنى ووقائع، لا يمكن لها أن تنتهي في لحظة. لكن المهّم أنّ "المسار" إنطلق وأقلع ولا يوقفه شيء، ولا عودة فيه إلى الوراء.

ومع ذلك، أي بالرغم من التشديد على الصبر الطويل والتحذير من النفس القصير، فإنّ المشهد العربيّ بعد الشهور الأربعة من الإنتفاضات والثورات، يفيد عن معطيات أساسيّة كبرى.

 

المعطى الأول يتعلق بمصر "الجمهوريّة".

فمصر ما بعد حسني مبارك، تشهد الآن مساراً تأسيسياً بالفعل لنظام دستوريّ ديموقراطيّ. فالبلد متّجه نحو إنتخابات برلمانيّة ورئاسيّة خلال الشهور المتبقيّة من السنة الحاليّة، ومدّة ولاية الرئيس الجديد لن تتجاوز السنوات الأربعة.. وإكتمال عقد النظام المصريّ الجديد سيحتاجُ إلى مزيد من الوقت. وما يحصل في مصر منذ أسابيع، يقع في إطار عمليّة الإنتقال من القديم إلى الجديد. فـ"الآن" تفرز ثورة 25 يناير التشكيلات الجديدة على الخارطة السياسيّة، و"الآن" تحاول التشكيلات – قديمها وجديدها – بلورة رؤاها السياسيّة والوطنيّة والبرنامجيّة أي أنّها بعدَ أن توحّدت حول هدف إسقاط النظام السابق، تتصارع – طبيعياً – حول المرحلة المقبلة. وثمّة صراعٌ – على وجه الإجمال – بين قوى ليبراليّة ديموقراطيّة وأخرى شبابيّة وثالثة من المجتمع المدنيّ ورابعة تمثل "الإسلام السياسيّ".. وصراعٌ حول دور الجيش. وحتىّ الأحداث الدامية بين مسلمين وأقباط تندرج في إطار هذا الصراع العام الذي يمكنُ القول إنّه "صراع أحجام" بمعنى من المعاني يستخدم البعض فيه المسألة الطائفيّة.

 

غير أنّ هذه المؤشرات جميعاً إلى مرحلة إنتقاليّة لمصر نحو "الجديد"، لا تُلغي حقيقة أنّ جمهوريّة مصر العربيّة في طور تأسيسيّ لنظام دستوريّ.

ولأنّ "القاعدة" التاريخيّة تقولُ إنّه لا يمكنُ فصل كيان (أو بلد أو دولة) عن الدور الذي يجب أن يلعبه، وصولاً إلى حدّ أنّ مبرّر وجود بلد يرتبط بقوّة بالدور الذي يؤديّه، ولأّنّ "القاعدة" نفسها تقول إنّ النظام في أيّ بلد يعتمدُ في وجوده وبقائه على الدور الذي يؤديّه بإسم البلد الذي يحكم فيه، فإنّ الأسابيع القليلة الماضيّة شهدت، بالتوازي مع المسار الداخليّ بإشكاليّاته وتعقيداته، إستعادة لدور مصريّ في الإقليم. وقد تجلّى ذلك في إنجاز المصالحة الفلسطينيّة – الفلسطينيّة برعاية مصر، بالإضافة إلى حراك ديبلوماسيّ "إستكشافي" في مدارات أخرى. أي مساران داخليّ وخارجيّ متوازيان.

 

المعطى الثاني يتعلّق بدول الخليج "الملكيّة والأميريّة".

لا يخطئ النظر هنا في أنّ هذه الدول بالإستناد إلى نسبة أعلى من الإستقرار قياساً إلى الأنظمة الجمهوريّة في المنطقة، سارعت إلى ترتيب معيّن لـ"بيوتها الداخليّة" بجرعات إصلاحيّة محدّدة. وذلك من غير إنكار أنّ حصول إرتباط بين المطالبة بالإصلاح في مملكة البحرين وبين النفوذ الإيرانيّ في هذا البلد وفي منطقة الخليج ككّل، قد أدّى في الأساس إلى إجهاض التغيير الذي شكا أدّى من إشكاليتين كبيريتين: إشكاليّة الصلة بالدور الإيراني من ناحية وإشكاليّة البُعد المذهبيّ – الشيعيّ – للإحتجاج التغييريّ من ناحية أخرى.

 

غير أنّ ذلك ترافق معَ إندفاعة إقليميّة ملحوظة لـ"مجلس التعاون الخليجيّ". تحقّقت وحدة المجلس في مواجهة إيران إبتداءً من النفوذ الإيرانيّ في البحرين، بل أعلنت دول المجلس نفسها رأس حربة المواجهة العربيّة لإيران ومشروعها. وفي سياق تأكيد كونها جهةً ذات دور إقليميّ ومصالح إقليميّة، كان واضحاً أنّ دول المجلس ركّزت إهتماماتها – بعدَ البحرين – على الأزمة اليمنيّة من منطلق أنّ اليمن يمثّل مدى حيوياً للخليج. والغالب على المبادرة الخليجيّة في اليمن، على الرغم من توصيف كثيرين لها بأنّها وسطيّة بين أطراف الصراع، أنّها مبادرةّ إصلاحيّة.

على أنّ اللافت بقوّة في الأيام الأخيرة، كان إعلان قمّة مجلس التعاون الإتجاه إلى التوسّع بإتجاه الأردن والمغرب.

بالتأكيد ليست ملكيّة الدولتين الأردنيّة والمغربيّة هي ما حسم هذا الأمر. وأغلبُ الظّن أنّ دولتين غير خليجيّتين، واحدة من المشرق وثانيّة من المغرب، يتّصل بإعتبارات أخرى.

 

لا جدالَ في أنّ "إقامة" الأردن على خط عواصف تُشكّل سبباً. فبينَ الحدود مع إسرائيل وفلسطين من جهة والحدود مع العراق من جهة ثانية والحدود مع سوريّا من جهة ثالثة، يدفع "الإضطراب" في محيط الأردن وفي موقعه تالياً، مجلس التعاون إلى إحاطة الأردن الذي ينبغي التذكير بأنّه كان أول دولة عربيّة تتحدّث علناً عن "الخطر الإيراني". كذلك فإنّ المغرب، بين تونس التي لم تكتمل ثورتها والجزائر التي يغلق نظامها البلد على التغيير حتىّ الآن وليبيا الغارقة إلى إشعار في حرب معمر القذافي للبقاء، يحتاجُ إلى أمان عربيّ. وكلاهما – الأردن والمغرب – بحاجة ملّحة إلى الدعم الإقتصاديّ.

بيدَ أنّ ذلك كلّه على صحّته وأهميّته لا يقدّم تفسيراً حاسماً. ومن هنا، لعلّ المنطقيّ القول إنّ هذا التجمعّ العربيّ الخليجي – الأوسطي هو نواة النظام العربيّ الرسميّ الجديد الذي "سوف" يولد بنتيجة المخاض. هو مرحلة إنتقاليّة نحوَ النظام العربيّ الجديد. هو بدل عن ضائع في مرحلة سقوط النظام القديم وعدم ولادة الجديد بعد.. هو إشهارٌ لدور عربيّ فيما الجامعة العربيّة معلّقة ومؤسّسات العمل العربي مؤجلّة.

 

أمّا المعطى الثالث فيتعلّق بنتيجتين رئيسيتين.

بينَ مصر في مسارها الداخليّ نحو التأسيس لنظام دستوريّ والخارجي نحو إستعادة دور إقليميّ من مدخل فلسطينيّ أولاً وبينَ مجلس التعاون الخليجي بمسار داخليّ لدوله نحوَ "إصلاح حدّ ادنى" وخارجيّ نحوَ دور إقليميّ في مواجهة المشروع الإيرانيّ وإستنقاذ اليمن وتأسيس نواة للنظام العربي الجديد ثانياً، تبدو سوريّا خارج العناية العربيّة، بكّل ما يعنيه ذلك للبنان المهدّد بـ"تداعيات سوريّا". هذا مع العلم أن لا تأييد خليجياً للنظام السوري، ورفض التوسّط الخليجيّ في الأزمة السوريّة هو في العمق موقفٌ ضدّ هذا النظام.

 

الأمرُ الثابت والذي لا رجعة فيه هو أنّ المخاض السوريّ مستمر ولن يوقفه أو يسحقه قمع النظام. والأمرُ الثابت أيضاً أنّ النظام في سوريّا بات فاقداً للشرعيّة الداخليّة ومعزولاً عربيًّا وخارج القانون والشرعيّة الدوليين. وكما في ليبيا، فإنّ الموكّل بسوريّا هو الشعب السوريّ من ناحية والمجتمع الدوليّ من ناحية ثانية بدون أدوار عربيّة "مباشرة". وحتىّ تركيّا الصارمة ضد إنغلاق النظام وقمعه، فإنّها لا تزال في مرحلة إنتقاليّة حيالَ الوضع السوريّ.أمّا لبنان فبالرغم من التحّولات ضدّ "فريق حزب الله"، فهو لا يزال مهدّداً وعلى تماس مع الأخطار.

 

والنتيجة الثانة هي أنّ المشهد العربيّ الذي يؤشّر إلى أفق إستنهاض عربيّ، يفيدُ أنّ ثمّة قوتين إقليميتين غير عربيتين مأزومتين. إسرائيل بالتأكيد مأزومة من التطوّر العربيّ الديموقراطيّ. وإيران مأزومة في صراعاتها الداخليّة وفي تأثّر نفوذها الإقليميّ عربيًّا.. خصوصاً أنّ "الورقة الفلسطينيّة" سُحبت منها. أما القوّة الإقليميّة غير العربيّة الثالثة أي تركيّا، فهي لا تزال بحاجة إلى بلورة نجاحات إقليميّة.

الخلاصةُ هي أنّ المعطيات والنتائج المنوّه عنها آنفاّ تفيد أنّ ثمّة مكتسبات عربيّة متجدّدة لكنّها تفيد أنّ الوضع العربيّ لا يزال في مرحلة إنتقاليّة تحتاجُ إلى رؤى عربيّة.. وتفيد أنّ المخاض العربيّ ليس قصير الأجل.