Date: Mar 26, 2021
Source: جريدة الشرق الأوسط
سردية التوحش والضِّعة - حسام عيتاني
في الصف الطويل أمام السجن حيث كان الأهل ينتظرون أخباراً عن أبنائهم وأقاربهم، تعرفت امرأة على الشاعرة الشهيرة أنا أخمتوفا الواقفة للاستفسار عن ابنها المُعتقل. أشارت المرأة إلى المنتظرين الذين هدّهم الخوف والبرد وأهوال المعتقلات، وسألت الشاعرة: «هل تستطيعين وصف كل هذا؟». تأملت أخمتوفا مشهد الناس المتلهفين للحصول على ما يطمئنهم عن الأبناء والأصدقاء ثم قالت: «نعم. أستطيع» وظهر ما يشبه الابتسامة على وجه السائلة.

جمعت أخمتوفا ما عاشته هي والملايين من مواطنيها في معتقلات ستالين الذي دمّر المجتمع الروسي ومجتمعات الشعوب السوفياتية الأخرى من أجل بناء «المجتمع الجديد». وشكّل ديوانها «الجنّاز» (قداس الموتى) شهادة على عذابها الشخصي وموت وسجن وعذابات أفراد بلا أسماء ووجوه كان كل ما مرّوا به سيُدفَن معهم لو لم تحفظه الشاعرة.

اليوم، نواجه السؤال ذاته الذي طرحته المرأة المنتظرة على الشاعرة: هل نستطيع وصف كل هذا والإحاطة به؟ هل هناك مَن يسجّل ما يتعرض له اللبنانيون من عنف واضطهاد وإذلال؟ الأهم، هل من فائدة تُرتجى من تدوين يوميات البؤس وحفظها للأجيال المقبلة كما فعلت أخمتوفا، على أمل ألا تتكرر كارثة اليوم؟

نزل الرعب الستاليني بالشعوب السوفياتية كثمن لمستقبل زاهر ورفاهية آتية. السؤال الذي يطرحه المتفرج على صراعات المشترين في المتاجر لاختطاف كيس سكّر من هنا أو علبة حليب أطفال من هناك: من أجل أي شعار ومشروع يتعين على اللبنانيين السير على هذه الجلجلة؟ ما جدوى «حقوق المسيحيين» إذا لم يبقَ مسيحيون أو مسلمون في لبنان؟ ما المكافأة التي يحلم المتكالبون على السلطة بالحصول عليها عندما يتحول البلد إلى قبضة من رماد؟ وهل تستحق رئاسة الجمهورية هذا الثمن؟ هل هناك مَن يأبه لآلام مَن لا يجد سريراً في المستشفى أو دواء في الصيدلية؟ هل تعني شيئاً لأصحاب الرؤوس الطائفية الحامية انتحارات أعداد متزايدة من الشباب الذين سُدّت في وجوههم أبواب الهجرة بعدما سُرق مستقبلهم؟ هل تنفع المقاومة بسلاحها والانتصارات الإلهية التي حققتها على أشلاء أهالي مضايا ويبرود والقصير في طمأنة أمٍّ تشرَّد ابنها الطالب في الخارج لأن المصارف تمنع تحويل مال أهله إليه؟ ما الغاية وما الهدف من كل ذلك؟ بل ماذا ينتظر سياسيون ومصرفيون وتجار دماء أن يحصل أو أن يجنوا من دمار هذا البلد البائس؟ بل ماذا تنفع أنقاض لبنان أصلاً ليمارسوا عليها ضروب جشعهم وسفالاتهم؟

قد تجعلنا الصورة الحالية الكالحة السواد ننسى أننا لسنا مجرد رهائن عند صغار السياسيين أو أوراق مساومة في إقليم مجنون، وأننا قبل كل شيء بشر صارعنا طويلاً لاسترجاع كراماتنا من صنوف المحتلين وزبانيتهم. وأن هذا القليل المتبقي لنا هو ما يقف بيننا وبين الموت. عليه، من المُلحّ أن ندوّن ما ترتكبه الجماعة المتسلطة بحق اللبنانيين تماماً مثلما سجّل كتّاب وباحثون فظائع الغولاغ والمحرقة والنكبة الفلسطينية، وألا ندع الذاكرة مباحة للمزوِّرين والانتهازيين والطفيليين.

وإذا كان الحراك الشعبي قد قُمع بقوة الرعاع الطائفي وبكاتم الصوت وبأكوام نترات الأمونيوم التي دمّرت بيروت، فلا ينبغي أن تخلو ساحة الذاكرة والتاريخ لسردية الائتلاف المتسلط وأضاليله وادعاءاته. علينا من أعماق قبورنا وحضيض فقرنا وبطوننا الخاوية ألا ننسى أسماء ووجوه أفراد هذا التحالف القميء والمجرم الذي أوصل بلدنا إلى درك لا يستحقه أهله وإلى أيام تبدو معها أكثر أيام الحرب الأهلية عنفاً بمثابة النزهة إذا قورنت بما يعيشه اللبنانيون اليوم.

علينا أن نحفظ أكاذيبهم ودجلهم وتلاعبهم بمشاعر البسطاء من الناس وحضهم على الكراهية والقتل والسرقة بكلمات مغلفة بمزاعم العفة والإصلاح والنقاء، وأن نأمل ألا يكون بعيداً ذلك اليوم الذي نشهر وقاحتهم وفجورهم في وجوههم ونذكّرهم كيف ضللوا مواطنيهم وسحقوهم تحت وطأة الفساد والخوف والفقر.

قد لا تكون الأجيال الحالية محظوظة لترى هذا اليوم الموعود. بيد أنه لا مفر من صوغ قصة أكثر الأيام سواداً التي جلبتها طغمة دموية ومرتهنة إلى هذا البلد واستسلمت لها، للأسف، أكثرية فضّلت أمان الكهوف على رياح الحرية. قصة جريمة يتفرج ضحاياها كيف يُساقون إلى فَنائهم صامتين وعاجزين بعدما أثقلت أيديهم وأقدامهم سلاسل الكراهية والخوف. هذه القصة ستكون مساهمة من لبنانيي الحاضر في تاريخ التوحش البشري وضِعة الإنسان حيال أخيه الإنسان.