Date: Mar 14, 2021
Source: جريدة النهار اللبنانية
هيغل وغوته محقّان... هكذا تحجّمت "17 تشرين" - جورج عيسى
لا جدال حول أنّ أعداد المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشارع بعد تخطّي الدولار عتبة 10 آلاف ليرة لم ترقَ إلى ما تأمّله كثر. تذمّر المحتجّون من عدم اندفاع الناس للتعبير عن غضبهم. غضب على من؟ هذا هو السؤال الذي لا تجد له أبرز الوجوه المنتفضة جواباً شافياً له بالرغم من ادّعائها العكس. "النظام"، "المنظومة"، "السلطة"، "الطبقة السياسيّة"، "الطغمة الحاكمة" هي الأجوبة المستهلكة التي يلجأ إليها الناطقون باسم التحرّكات الاحتجاجيّة. ولزيادة الطين بلّة، يحتمي هؤلاء بشعار أكثر ضبابيّة، "كلّن يعني كلّن"، مقتنعين بقدرته على تحقيق الهدف، أو عمليّاً، اللاهدف.

استنسخ محتجّو انتفاضة 17 تشرين الأوّل شعارات صدحت بها ميادين عربيّة لتطبيقها على الميدان اللبنانيّ المختلف عنها مثل "إسقاط النظام". فـ"النظام" في الدول العربيّة ذو معنى مختلف عن "النظام" في لبنان. الأوّل مساوٍ ومحايث لموقع وشخص رئيسه. في لبنان، هو يعبّر عن العلاقات المتجانسة و/أو المتضاربة بين مكوّنات السلطة التشاركيّة. للتبسيط، النظام في الدول العربيّة يعبّر عن حاكم بينما في لبنان يعبّر عن دائرة، غير محدّدة، من الحكّام أصحاب المسؤوليّات المتفاوتة. في إطار شرحه للمنطق الديالكتيكيّ الهيغليّ، يرى الكاتب حنا ديب في كتابه "فلسفة التاريخ الهيغلية: أوهام ماركس" (دار سائر المشرق) أنّه "ولكي يتصرّف الإنسان يجب أن يكون لديه خصائص محدّدة بدقّة، والإنسان ذو الخصائص المحدّدة هو إنسان الفهم الذي، بهذه الصفة، يضع نصب عينيه أهدافاً محدّدة ويتبعها بصرامة". ويتابع: "الفهم لحظة أساسيّة للثقافة.

فالإنسان المثقّف لا يكتفي بما هو ضبابيّ وغير متعيّن..." حين تفتقد أيّ حركة احتجاجيّة لهدف واضح ستفقد زخمها عاجلاً لا آجلاً. لن يشفع لها بروز تطوّرات ضاغطة أخرى. هذا هو السائد في الوضع اللبناني.

يكتفي قادة التظاهرات بانتقاد "ما هو ضبابيّ وغير متعيّن"، مثل "المنظومة" و"المافيا" وسائر المجرّدات. غير أنّ الإصرار على الاختباء خلف تلك المجرّدات يحصّن الحائط المسدود الذي وصلت إليه الأزمات، وفي طليعتها أزمة المتظاهرين المزدوجة، أكانت مع الشعب أو مع السلطة. الشعب نفسه الذي صنع "التاريخ" في 19 تشرين الثاني أصبح شعباً "مخدّراً" اليوم.

لم يسأل المتظاهرون، وتحديداً وجوههم البارزة، عن السبب وراء هذا التحوّل. يمكن أن يهرع بعضهم إلى أجوبة مريحة ومعزّية مثل "كورونا" والتعب والحاجة إلى تأمين القوت اليوميّ وغيرها. في هذه العوامل ما هو واقعيّ. لكنّ عدم القدرة على ملاحظة الخلل في طبيعة الشعارات هو "عقبُ أخيل" الانتفاضة. وأزمة المتظاهرين مع السلطة ناجمة عن عدم تحديد هويّة الممسكين بها وعدم تحديد مدى درجة إمساكهم بها.

والعنصر الثاني مهمّ في المعادلة. أكان الممسكون بالسلطة في لبنان ستّة، أو عشرة، أو مئة، من البديهيّ ألّا يكونوا متمتّعين بقدرات متساوية تماماً في التحكّم وفي إدارة الموارد الأمنيّة والسياسيّة والماليّة. حتى قبل الوصول إلى العنصر الثاني، يعجز قادة الانتفاضة عن تعيين خصمهم "السلطويّ". يقول هؤلاء إنّ السلطة قد "تركب موجة" الثورة عبر محازبيها.

من هنا، يمكن فهم التناقضات في خطابات ممثّلي الانتفاضة المفترضين. منهم من يدعو جماهير الأحزاب للمشاركة في التظاهرات على أساس أنّهم جائعون أيضاً، ومنهم من يدعو إلى عدم استقبالهم في الساحات. هذا التناقض والارتباك ليس وليدة اختلاف طبيعيّ في التوجّهات التكتيكيّة للمتظاهرين. عندما لا يتمكّن المرء من التمييز بين الحليف والخصم في أيّ معركة، لن يواجه انتقاداً بسبب طريقة خوضه المعركة بل بسبب اعتقاده أساساً بأنّه يخوض معركة. أعاد شعار "كلن يعني كلن" المتظاهرين إلى ما قبل المربّع الأوّل. إلى جانب أنّه رفع عن كاهلهم تولّي تحديد المسؤوليّات عن تردّي الأوضاع، أقنع المحتجّين بإمكانيّة إسقاط أو محاسبة "منظومة الحكم" دفعة واحدة. وهذا وهم محض.

ليس الأمر مجرّد اختلال فاقع في موازين القوى بين المعارضة والسلطة. إنّه تجاهلٌ لمنطق تكوّن هذه السلطة من مراكز قوى متعدّدة ومتّصلة يستحيل استهدافها جميعها في وقت واحد من دون توقّع أن تزداد تراصّاً. إنّ عمليّة إسقاط أو استهداف "كلّ" السلطة تذكّر بجملة لهيغل في "موسوعة العلوم الطبيعيّة" يستشهد بها ديب في كتابه: "من يريد شيئاً كبيراً، يقول (الأديب الألماني يوهان) غوته، عليه أن يعرف كيف يقتصر عليه. وبالعكس، من يريد الكلّ فإنه، عملياً، لا يريد شيئاً ولن يصل إلى شيء". 

لذلك، بمجرّد أن أراد المتظاهرون استهداف "كلّ" السياسيّين، حكموا على أنفسهم بالفشل. لكنّهم لا يتحمّلون كامل وزره. في كتابه "حدود اليسار الثوري كظاهرة تاريخية" (دار بيسان)، يكتب الدكتور نديم البيطار أنّ "كل نظام اجتماعي – إيديولوجي يتبع دورة معينة تمر في مراحل معينة تنقله من الولادة إلى الموت. في طور أول يمكن تسميته بالطور الديناميكي يكون الإيمان به قوة مفجرة تعمل على تحويل التاريخ والمجتمع والإنسان في صورته. ولكن في طور لاحق يمكن تسميته بالطور التقليدي الاستاتي، يخسر الإيمان به قوة التفجير والتحريك لطاقات المؤمنين به ويتحول إلى نقيضه، أي إلى قوة تلجم هذه الطاقات وتجمدها، فيصبح النظام راكداً جامداً يجتر نفسه بسكون". 

يمكن القول إنّ الانتفاضة تمرّ اليوم في هذا الطور "الاستاتيّ" مع تحوّلها إلى قوّة تلجم طاقات المنتفضين بدلاً من تحفيزها. 

عدم حماسة الجزء الأكبر من منتفضي 17 تشرين بالعودة إلى الشارع هو علامتها الأبرز. ما تواجهه الانتفاضة الحاليّة جزء من دورة طبيعيّة في حركات الانتفاضة. مع ذلك، أخطأ المتحدّثون باسم مجموعات الانتفاضة المختلفة بعدم تجديد خطابهم وشعارهم السياسيّ. لقد أخطأوا خصوصاً في الإبقاء على "الغموض" (غير البنّاء) في السعي إلى محاسبة "كلّ" من في السلطة دفعة واحدة، فانتهى بهم الأمر إلى عدم محاسبة أحد. غوته وهيغل كانا على حقّ.