Date: Feb 8, 2021
Author: , Ziad Majed
Source: جريدة القدس العربي
في‭ ‬أن‭ ‬الاغتيالَ‭ ‬مجزرةٌ‭ ‬مكتملة
تُثير‭ ‬عملية‭ ‬اغتيال‭ ‬الباحث‭ ‬والناشط‭ ‬السياسي‭ ‬اللبناني‭ ‬لقمان‭ ‬سليم‭ ‬في‭ ‬بلدٍ‭ ‬شهد‭ ‬منذ‭ ‬ستينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬مئات‭ ‬الاغتيالات‭ ‬لصحافيين‭ ‬ومثقفين‭ ‬وسياسيين،‭ ‬وعرف‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬حربه‭ ‬الأهلية‭ ‬اغتيالات‭ ‬إضافية‭ ‬تحوّلت‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬2004‭ ‬و2013‭ ‬إلى‭ ‬أداةَ‭ ‬تصفيةِ‭ ‬حساباتٍ‭ ‬وتثبيت‭ ‬معادلات‭ ‬وموازين‭ ‬قوى‭ ‬وإرسال‭ ‬رسائل‭ ‬داخلية‭ ‬وخارجية،‭ ‬خشيةً‭ ‬من‭ ‬عودة‭ ‬آلة‭ ‬القتل‭ ‬لافتراس‭ ‬أفرادٍ‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬محكومةٍ‭ ‬محلياً‭ ‬بالانهيارات‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والصحية‭ ‬ومُقبلة‭ ‬إقليمياً‭ ‬على‭ ‬مفاوضات‭ ‬وتوتّرات‭ ‬وتسويات‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬القاسم‭ ‬المشترك‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الاغتيالات‭ ‬الواقعة‭ ‬بعد‭ ‬العام‭ ‬2004‭ ‬خصومةَ‭ ‬ضحاياها‭ ‬للنظام‭ ‬السوري‭ ‬ولحزب‭ ‬الله،‭ ‬فإن‭ ‬في‭ ‬الاغتيال‭ ‬الأخير‭ ‬ما‭ ‬يضيف‭ ‬على‭ ‬المشترِك‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬الضحية‭ ‬خُطف‭ ‬قبل‭ ‬تصفيته‭ ‬أو‭ ‬قبل‭ ‬تنفيذ‭ ‬حُكم‭ ‬إعدامٍ‭ ‬متّخذ‭ ‬بحقّه‭ ‬ومُحتفى‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬شعارات‭ ‬سابقة‭ ‬ولاحقة‭ ‬أُلصقت‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬دارته‭ ‬وعلى‭ ‬صفحته‭ ‬الفايسبوكية‭ ‬وفي‭ ‬مقالات‭ ‬صحفية‭ ‬خوّنته‭ ‬وكالت‭ ‬عليه‭ ‬الاتهامات‭.‬

ويمكن،‭ ‬كما‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬اغتيال،‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬الأسباب‭ ‬والبحث‭ ‬في‭ ‬الأهداف‭ ‬والانعكاسات‭. ‬ويمكن‭ ‬أيضاً‭ ‬إثارة‭ ‬أسئلة‭ ‬حول‭ ‬توقيت‭ ‬الجريمة‭ ‬عشية‭ ‬عودة‭ ‬محتملة‭ ‬للاتصالات‭ ‬الإيرانية‭ ‬الأميركية‭ ‬وفي‭ ‬موازاة‭ ‬اغتيالات‭ ‬طالت‭ ‬ناشطين‭ ‬وناشطات‭ ‬معارضين‭ ‬للهيمنة‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬وجنوب‭ ‬العراق‭. ‬ويمكن‭ ‬كذلك‭ ‬الردّ‭ ‬على‭ ‬المقولات‭ ‬التي‭ ‬تستثني‭ ‬وجهات‭ ‬اتهامية‭ ‬أو‭ ‬تبرّئ‭ ‬أطرافاً‭ ‬بسبب‭ ‬موقع‭ ‬الجريمة‭ ‬وأسلوب‭ ‬ارتكابها‭ ‬وما‭ ‬يسمّى‭ ‬‮«‬الجدوى‮»‬‭ ‬من‭ ‬تنفيذها‭. ‬لكنّ‭ ‬الأهمّ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬ربما‭ ‬هو‭ ‬التذكير‭ ‬بثلاثة‭ ‬أمور‭ ‬تضيع‭ ‬غالباً‭ ‬في‭ ‬المتداول‭ ‬من‭ ‬تحليلاتٍ‭ ‬وردود‭ ‬وسجالات‭.‬

الأمر‭ ‬الأول‭ ‬يرتبط‭ ‬بالقتيل‭ ‬نفسه‭. ‬فلقمان‭ ‬سليم،‭ ‬المعارض‭ ‬لحزب‭ ‬الله،‭ ‬المقيم‭ ‬وسط‭ ‬بيئة‭ ‬الحزب‭ ‬في‭ ‬الضاحية‭ ‬الجنوبية‭ ‬لبيروت‭ ‬والمقتول‭ ‬فيها‭ ‬أيضاً،‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬اللبناني،‭ ‬كان‭ ‬أوّلاً‭ ‬فاعلاً‭ ‬ثقافياً‭ ‬غزير‭ ‬الإنتاج‭ (‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬والتوثيق‭ ‬والسينما‭ ‬والنشر‭ ‬وتنظيم‭ ‬الندوات‭ ‬والمعارض‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬ثانياً‭ ‬ناشطاً‭ ‬سياسياً‭ ‬ذا‭ ‬مواقف‭ ‬حادة‭ ‬شكّلت‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬محلّ‭ ‬اعتراض‭ ‬أو‭ ‬خلاف‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يشاطرونه‭ ‬التموضع‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الحزب‭ ‬الشيعي‭ ‬وحليفيه‭ ‬الإقليميّين‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬وطهران‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬ذكر‭ ‬الجانب‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬انخراطه‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬العام‭ ‬ضرورياً‭ ‬لرفده‭ ‬أداءه‭ ‬السياسي‭ ‬وأدواته،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬اغتياله‭ ‬يفرض‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬هويّته‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬استهدفها‭ ‬القتل‭ ‬المحترف‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التذكير‭ ‬بأي‭ ‬اختلاف‭ ‬معه‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬محاججاته‭ ‬مشروعٌ‭ ‬شرط‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التبرّؤ‭ ‬أو‭ ‬إقامة‭ ‬المسافة‭ ‬أو‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬مسؤولية‭ ‬أفكاره‭ ‬عن‭ ‬مصرعه‭ ‬أو‭ ‬شرطاً‭ ‬لإدانة‭ ‬القتل‭ ‬البربري‭ ‬ومحترفيه‭. ‬فالنقاش‭ ‬والتباين‭ ‬اللذان‭ ‬يستويان‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المغدور‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬الدفاع‭ ‬الحرّ‭ ‬والكريم‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬يفقدان‭ ‬المعنى‭ ‬أمام‭ ‬جثّة‭ ‬انتزع‭ ‬منها‭ ‬وحوش‭ ‬الروح‭ ‬والحقّ‭ ‬في‭ ‬التنفّس‭ ‬والتصادم‭ ‬في‭ ‬المعتقدات‭ ‬والمواقف‭. ‬وحده‭ ‬احتقارهم‭ ‬وإشهار‭ ‬الغضب‭ ‬والتحدّي‭ ‬غير‭ ‬المعطوف‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬معطى‭ ‬هو‭ ‬الردّ‭ ‬على‭ ‬الاغتيال‭ ‬أو‭ ‬الإعدام‭ ‬الهمجي‭ ‬ومصمّميه‭.‬

الأمر‭ ‬الثاني‭ ‬أن‭ ‬الاغتيالات‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬لبنان‭ ‬الحديث‭ ‬لم‭ ‬تخلّف‭ ‬سوى‭ ‬الضحايا‭ ‬وأوجاع‭ ‬ذويهم‭. ‬فلا‭ ‬مجرمين‭ ‬حوكموا‭ ‬ولا‭ ‬محرّضين‭ ‬أوقفوا‭ ‬ولا‭ ‬حقائق‭ ‬جنائية‭ ‬أُعلنت‭ ‬أو‭ ‬تحقيقات‭ ‬عدلية‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬نهائية‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬في‭ ‬جرائم‭ ‬الاغتيال‭ ‬والإعدام‭ ‬السياسي‭ ‬ظلّ‭ ‬العرف‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود‭ ‬طويلة‭. ‬وهو‭ ‬أفضى‭ ‬إلى‭ ‬تشييد‭ ‬حصانة‭ ‬شديدة‭ ‬التماسك‭ ‬للقتلة‭ ‬وأسيادهم‭ ‬يسّرت‭ ‬مهامهم‭ ‬وشجّعتهم‭ ‬على‭ ‬اعتماد‭ ‬التصفية‭ ‬الجسدية‭ ‬أسلوباً‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الخصوم‭ ‬والمبغوضين،‭ ‬وعزّزت‭ ‬ثقافة‭ ‬الإقصاء‭ ‬والعنف‭ ‬لدى‭ ‬شرائح‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬لا‭ ‬تخفي‭ ‬شماتتها‭ ‬وغبطتها‭ ‬بمشهد‭ ‬أشلاء‭ ‬خصومها‭ ‬العزّل‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬كلماتهم‭. ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬أدّت‭ ‬حصانة‭ ‬القتل‭ ‬بخلفيّات‭ ‬سياسية‭ ‬وبتواطؤ‭ ‬أحياناً‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬أمن‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬قوى‭ ‬نافذة‭ ‬في‭ ‬السلطات‭ ‬الرسمية‭ ‬أو‭ ‬الأهلية‭ ‬إلى‭ ‬تحويل‭ ‬التحقيقات‭ ‬نفسها‭ ‬إلى‭ ‬مغامرات‭ ‬خطيرة‭ ‬لا‭ ‬أمان‭ ‬للجدّيين‭ ‬والمخلصين‭ ‬فيها‭. ‬ولنا‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬بوسام‭ ‬عيد‭ ‬ووسام‭ ‬الحسن‭ (‬وبينهما‭ ‬الناجي‭ ‬سمير‭ ‬شحادة‭) ‬عبَر‭ ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬دلالاتها‭. ‬فكيف‭ ‬لا‭ ‬تتكاثر‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬انعدام‭ ‬الحساب‭ ‬ونجاة‭ ‬القتلة‭ ‬وطمس‭ ‬الحقائق‭ ‬والأدلّة‭ ‬عمليّات‭ ‬الاغتيال‭ ‬والتصفية،‭ ‬خاصة‭ ‬ضد‭ ‬المستضعفين‭ ‬ممّن‭ ‬لا‭ ‬قدرة‭ ‬لهم‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬ممتهني‭ ‬خطف‭ ‬وقتل‭ ‬وتعذيب‭!‬

والأمر‭ ‬الثالث‭ ‬أن‭ ‬القول‭ ‬بالمستفيدين‭ ‬والرابحين‭ ‬والخاسرين‭ ‬بعد‭ ‬جرائم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬للتشكيك‭ ‬بهويّة‭ ‬الجناة‭ ‬كلام‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الابتذال‭. ‬ففي‭ ‬ظل‭ ‬الحصانة‭ ‬المذكورة‭ ‬واطمئنان‭ ‬القتلة‭ ‬إلى‭ ‬أمانهم‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬استبدادهم‭ ‬وزهوهم‭ ‬ببأسهم‭ ‬ونفوذهم،‭ ‬لا‭ ‬يُضيرهم‭ ‬اتّهام‭ ‬أو‭ ‬‮«‬توظيف‮»‬‭ ‬أو‭ ‬جملة‭ ‬مقالات‭ ‬واستنكارات‭ ‬وتشنيعات‭ ‬لفظية‭. ‬إنتقامهم‭ ‬من‭ ‬خصمٍ‭ ‬وتخويفهم‭ ‬لسواه‭ ‬وتحويل‭ ‬صوتٍ‭ ‬إلى‭ ‬صدىً‭ ‬هو‭ ‬فائدة‭ ‬لهم‭ ‬وربح‭ ‬صافٍ‭ ‬ولا‭ ‬كلام‭ ‬آخر‭ ‬ذا‭ ‬معنى‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬رقاعة‭ ‬نظم‭ ‬المحاسبة‭ ‬وانتفاء‭ ‬شروط‭ ‬القانون‭ ‬والحقّ‭ ‬وتكدّس‭ ‬جثث‭ ‬القمع‭ ‬والانتهاك‭ ‬والبربريّة‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬والمنطقة‭. ‬أما‭ ‬الخاسرون‭ ‬فهم‭ ‬القتيل‭ ‬وأهله‭ ‬وصحبه‭ ‬وشركاؤه‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬والسمر،‭ ‬وهي‭ ‬الحرية‭ ‬والتعدّد‭ ‬والحق‭ ‬بالتمايز‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يُطيقه‭ ‬أو‭ ‬يتحمّله‭ ‬القتلة‭ ‬الشموليّون‭ ‬أصلاً‭.‬

لقمان‭ ‬سليم‭ ‬أُعدم‭ ‬إذن‭. ‬وإعدامه‭ ‬موتٌ‭ ‬وحشي‭ ‬ومجزرة‭ ‬حصدت‭ ‬مشاريع‭ ‬فردية‭ ‬وجماعية‭ ‬واحتمالات‭ ‬وصداقات‭ ‬وذكريات‭ ‬وخلافات‭ ‬وعناوين‭ ‬كتبٍ‭ ‬وأفلام‭. ‬وحصدت‭ ‬فوق‭ ‬ذلك‭ ‬بقايا‭ ‬أمن‭ ‬وسلامة‭ ‬لأصحاب‭ ‬رأي‭ ‬ولناشطين‭ ‬توهّموا‭ ‬أن‭ ‬حقبة‭ ‬الاغتيالات‭ ‬ولّت‭ ‬أو‭ ‬جُمّدت‭ ‬لبنانياً،‭ ‬وأن‭ ‬ثمة‭ ‬أولويّات‭ ‬‮«‬كبرى‮»‬‭ ‬قد‭ ‬تُنسي‭ ‬القتلة‭ ‬عدّة‭ ‬شغلهم‭ ‬الصمّاء،‭ ‬وأن‭ ‬ثورة‭ ‬شعبية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُطيح‭ ‬بمنظومة‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬وقيميّة‭ ‬فاسدة‭ ‬دون‭ ‬المسّ‭ ‬المباشر‭ ‬بترسانة‭ ‬السلاح‭ ‬الحامي‭ ‬لها‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬كلّه‭ ‬بان‭ ‬اليوم‭ ‬سراباً،‭ ‬فأُضيفت‭ ‬إلى‭ ‬مآسي‭ ‬البلد‭ ‬جرعة‭ ‬موت‭ ‬وأسى‭ ‬ودماء‭ ‬إضافية‭ ‬نزفت‭ ‬من‭ ‬جسد‭ ‬فردٍ‭ ‬شجاع‭ ‬تُرك‭ ‬في‭ ‬عتمة‭ ‬الليل‭ ‬على‭ ‬قارعة‭ ‬طريق‭.‬