Date: Nov 20, 2020
Source: جريدة النهار اللبنانية
محكمة المحاسبات التونسية والتمويل الأجنبي للأحزاب...
كتبت روعة قاسم
مثّل التقرير الأخير الصادر عن محكمة المحاسبات في تونس، صفعة للعملية السياسية برمتها وللإنتقال الديموقراطي في البلاد، ولصدقية مختلف المواعيد الانتخابية التي عرفتها الخضراء منذ عام 2011 وصولاً إلى انتخابات 2019. فقد تحدث التقرير، الصادر عن هذه المحكمة، وهي هيئة رسمية في الدولة، عن حصول عدد لا بأس به من الأحزاب على تمويلات أجنبية لحملاتها الانتخابية، ضاربة عرض الحائط بمبدأ تكافؤ الفرص بين الأفراد واللوائح المتنافسة وبالسيادة الوطنية.

عن هذه القضية، كتبت روعة قاسم في "النهار العربي": "يعتبر الحصول على التمويل الخارجي والمس بمبدأ تكافؤ الفرص شكلاً من أشكال التزوير في الانتخابات وذلك وفقاً للمعايير الدولية للانتخابات الحرة والنزيهة التي تتضمن شروطاً أخرى وجب توفرها كلها لإسباغ صفة الشرعية على نتائج عمليات الاقتراع. فالتزوير ليس فقط الإعلان عن نتائج مخالفة لما أفرزه الصندوق، خدمة للطرف الممسك بزمام الأمور في السلطة لتأبيد حكمه وهيمنته على رقاب البلاد والعباد، بل يشمل صوراً عديدة، منها الحصول على تمويلات خارجية تُنفق على الحملات الانتخابية وعلى شراء ذمم الناخبين يوم الإقتراع.

لقد كان تزوير الانتخابات في الماضي يقتصر على العبث بنتائج الصندوق والإعلان عن فوز من هم في الحكم بنسب قياسية ومرتفعة جداً، وهو ما حصل على وجه الخصوص في انتخابات عام 1981 التي حازت فيها حركة الديموقراطيين الإشتراكيين على أكبر عدد من الأصوات، لكن تم الإعلان عن تصدر "الحزب الإشتراكي الدستوري" الحاكم للنتائج خلافاً لإرادة الناخبين وباعتراف شخصيات مهمة كانت فاعلة في النظام التونسي في ذلك الوقت.

وتشكلت حركة الديموقراطيين الإشتراكيين من دستوريين من حزب الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، انشقوا عن حزبهم الأصلي وشكلوا حزباً جديداً مطالبين بورقيبة ونظامه بالديموقراطية والتداول السلمي على السلطة.

الحقيقة أنه لم يكن خافياً على التونسيين وجود المال الأجنبي في الحياة السياسية باعتبار أن النفقات الكبيرة لبعض الأحزاب كانت بادية للعيان ويمكن معاينتها في مؤتمرات هذه الأحزاب وندواتها وتظاهراتها الانتخابية، وأيضاً في قدرتها على فتح مكاتب ومقار في كل مكان، وعلى التواجد في كل شبر من تراب الجمهورية، وفي قدرتها أيضاً على توفير المال لشراء ذمم الناخبين يوم الإقتراع. لكن تقرير دائرة المحاسبات جاء ليحسم الأمر ويقيم الدليل القاطع على حقيقة الشبهات التي طاولت الطبقة السياسية، والتي أنكرها معظم السياسيين معتبرين انها اتهامات باطلة لا أساس لها.

فحين كان يحصل جدل في السابق حول معضلة التمويل الأجنبي الذي تتلقاه الأحزاب، يسارع المنتمون إلى هذه الأحزاب المشتبه بها إلى النفي القاطع ويكررون عبارات من قبيل أنه "لا يوجد دليل" و"هاتوا برهانكم" أو أن "هذا كذب وافتراء"، وكأن الأمر يتعلق بالتقاضي في المادة المدنية التي لا بد فيها من إثبات الحق أو أي أمر ما من خلال كتب، وذلك في غياب الإقرار أو الإعتراف. ففي المادة الجزائية، الأمر مختلف باعتباره يتعلق بوقائع يمكن إثباتها بكل الوسائل بما في ذلك شهادة الشهود، ناهيك بوجود قرائن عديدة تثير الشبهة على غرار عمليات ضبط منتمين إلى بعض الأحزاب في مطارات أوروبية يحملون حقائب تضم مبالغ مالية وهم قادمون من دول على علاقة بالأحزاب التونسية... والأكيد أنه في أي بحث تحقيقي بخصوص هؤلاء ستثبت أدلة جديدة لكن شرط أن ترفع بعض الأحزاب يدها عن القضاء وعن الجمارك والجهاز المصرفي والمالي وغيره... 

وتوهم بعض الأحزاب السياسية التونسية، في إطار إنكارها لوجود التمويل الأجنبي للحملات الانتخابية، الناس بأن نفقاتها متأتية من أموال التبرعات والإنخراطات التي يدفعها أبناء الحزب بصورة دورية، وكأن هذه الأحزاب هي بحجم "الحزب الشيوعي الصيني" الذي يضم الملايين من البشر الذين يوفرون بتبرعاتهم ما قد يكفي لأنشطة الأحزاب التونسية مجتمعة. فمجموع المصوتين للحزب الأول في الانتخابات التشريعية الأخيرة في تونس لم يتعد نصف مليون ناخب، ومن المؤكد أنهم ليسوا جميعاً منتمين فعلياً إلى هذا الحزب وليسوا بالضرورة من دافعي التبرعات وتسديد الاشتراكات.

ونتيجة لهذا المال السياسي الخارجي الذي أكدته محكمة المحاسبات، فإن نسبة مهمة ممن يحتلون اليوم، وبالانتخاب، مواقع في أهم مؤسسات الدولة باتوا بنظر كثير من التونسيين، مزورين وأشخاصاً لا صدقية لهم أمام الرأي العام الناقم على طبقته السياسية. فهم برأي كثير من التونسيين يمثلون طبقة سياسية عميلة للطرف المانح تدين له بالولاء المطلق والطاعة العمياء وتصيب سيادة الدولة في مقتل ولا تهتم للمصالح العليا للبلاد وتساهم في تدمير الدولة الوطنية. 

وتنادي أطراف عديدة اليوم في تونس بوقف صرف رواتب النواب الذين ينتمون إلى الأحزاب المشتبه في تلقيها تمويلات أجنبية في انتظار أن يبت القضاء في تقرير دائرة المحاسبات باعتبار أن شرعية تواجدهم في المجلس النيابي باتت محل شك. ويُخشى في المقابل أن يتعرض قضاة محكمة المحاسبات، التي كانت تسمى في السابق دائرة المحاسبات والتي تشكل مع المحكمة الإدارية ما يسمى "مجلس الدولة"، إلى المضايقات والضغوط من قبل بعض الأحزاب المتنفذة في الدولة وذلك بالنظر لما أبدوه من شجاعة قل نظيرها في تونس.

يشار إلى أن المشرع التونسي يمنع بمقتضى القانونن التمويل الأجنبي للأحزاب السياسية، مقابل سماحه بذلك للجمعيات لأنها لا تهدف للوصول إلى الحكم على غرار الأحزاب التي يُخشى من أن ترهن قرارها لاحقاً وقرار البلد من ورائها للدول المانحة التي لا هم لها سوى مصالحها الخاصة وإن تعارضت مع المصلحة التونسية. فهناك من الدول، وعلى سبيل المثال، من تفرض اليوم على تونس من خلال من قامت بإيصالهم إلى الحكم اقتناء بضائع بالعملة الصعبة تحمل علامتها التجارية، لا يحتاجها الاقتصاد التونسي وتضرّ كثيراً بالصناعة التونسية".