| | Date: Nov 10, 2020 | Source: موقع النهار العربي - لبنان | | خلفيّة اللاتوازن اللبنانيّ | منى فياض
الأوضاع والأحداث في المجتمعات تشتغل عموماً وتتطور على شكل منظومة مترابطة وبتأثيرات متبادلة بين أطرافها كافة، لكن أكثر ما ينطبق هذا التوصيف على منطقتنا ذات التاريخ الممتد والعلاقات المتشابكة سياسياً ودينياً وإتنياً وثقافياً. وعلى رأي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي يؤكد استحالة فَهْم المجتمع في وضعه الراهن من دون الرجوع إلى الأحداث التي مرّت به في عهوده الماضية، والتي يجد أنّ لكلٍّ منها تأثيره، القليل أو الكثير، في السلوك الحالي للناس في المجتمع، وفي تفكيرهم.
أزمات متراكبة
من هذا المنطلق، تكون أزمة لبنان الراهنة سابقة للخلل الحاصل منذ 2005 وحتى الآن. فعلى خلفية توقف الحرب العسكرية مع اتفاق الطائف وعدم حصول مراجعة ومصالحات بين الأطراف الداخليين المتحاربين، ومع وجود الاحتلال الإسرائيلي حتى التحرير في عام 2000 وحتى ما قبل عام 2005، استمر الصراع بأشكال أخرى. لكن اغتيال رفيق الحريري في 2005 غيّر المعادلة وفجّرها، فانكشفت العلاقات داخل السلطة وبرز الانقسام الداخلي العمودي انطلاقاً من انتفاضة 14 آذار (مارس) وخروج الجيش السوري، مروراً بحرب صيف 2006 وغزوة 7-8 أيار (مايو) (المجيدة)، وصولاً الى الاعتصام الشهير الذي عطّل البلاد لأكثر من عام ونصف عام.
وزاد في تظهيرها ما حصل عام 2011 عند التغيير المشهدي في الأكثرية النيابية – من دون انتخابات - وفرض الأقلية حكومتها؛ ما أدى بالاختلال الحاصل الى طريق مسدود فتعطلت آليات السلطة إلا في حال الرضوخ للأقوى.
لذا، لا يمكننا أن نفصل أي أزمة قد نعاني منها الآن عن مشكلة ازدواجية السلطة بوجود فئة داخلية مسلحة وتطبّق الأمن الذاتي في مناطقها، وصل معه الأمر الى وجود دولة داخل الدولة لها مناطقها الأمنية وسياستها الخارجية المخالفة لسياسة الحكومة.
ومن هذا المنظار أيضاً، لا يمكن أن تتم معالجة الأمور أو فهمها من زاوية واحدة، لكن بالنظر اليها من جوانب عدة في الوقت نفسه ....
إذاً أزمة لبنان الراهنة سابقة على الحرب السورية؛ لكن الثورة السورية عرّتها تماماً وكشفت مزاعم دور "حزب الله" كمقاومة بعد التحرير وكشفت مذهبيته الفاقعة – عند رفع شعار "حماية المقامات الشيعية" – واضطر في النهاية للاعتراف بالدفاع عن النظام المستبد؛ فازدادت المشكلة اللبنانية تعقيداً، بعد تحوّل الثورة السورية السلمية الى حرب، على وجهين: تورط "حزب الله" في الحرب السورية وانكشاف تبعيتها المطلقة لإيران، ثم مشكلة النزوح السوري وتداعياتها على الوضع الداخلي المأزوم أصلاً، وعلى التوازنات الدقيقة بين الطوائف، إضافة الى سؤال الهوية الذي طرحه اللجوء على الضيف والمضيف. وصولاً الى تفجّر الوضع تماماً منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019.
كل ذلك على خلفية الصراع المذهبي المكشوف بين السنّة والشيعة على خلفية صراع قومي: عربي - إيراني. وأخيراً دخل المكوّن التركي.
خلفية عامة
يفترض عادة أن يشكل الشعور بالتهديد عامل وحدة داخلية في المجتمعات المتعددة، كما أن التوترات الدولية تساعد على التوافق داخل الدول الصغرى. لكن في لبنان نجد العكس؛ إذ لحصول ذلك ينبغي أن تنظر جميع مكوّنات المجتمع الى التهديدات على أنها خطر مشترك كي تنتج منها الوحدة، وإلا فإنها تؤدي الى تفاقم الوضع؛ ذلك أن الطوائف، ومنذ إرساء النظام اللبناني وتشكّل الدولة الوطنية في ظل الصراع بين القوى الكولونيالية التي عملت على تعجيل انهيار الدولة العثمانية المتهالكة من خلال "حماية الأقليات" والتدخل في شؤونها؛ اعتادت هذه الطوائف اللجوء الى طرف خارجي، إما لتحصيل حقوقها مقابل الخصم من طائفة أخرى، وإما لحماية نفسها منه: دخول الفلسطيني عام 1969 ومن ثم السوري منتصف سبعينات القرن الماضي ومن ثم الإسرائيلي. والآن الهيمنة الإيرانية بفضل مكوّن داخلي: "حزب الله".
والسؤال الممكن طرحه دائماً: هل كان الوضع الداخلي سيهتز فيما لو كانت الظروف الإقليمية المحيطة مختلفة أو مستقرة؟
كل ذلك على خلفية خللين:
الخلل الأول، يعود للظروف التي أحاطت بالاستقلال ولموقع لبنان الخاص الجيو سياسي في المنطقة وارتباطه العضوي بمحيطه العربي ولموقعه الخاص الجيو سياسي في المنطقة. فبعد الاستقلال بخمس سنوات، وقبل أن تتركز أوضاع الدولة الوطنية الناشئة تعرّضت لترددات الزلزال الذي سُمّي "نكبة"، وأقصد احتلال فلسطين وإعلان دولة إسرائيل، ما تسبّب بأزمة اللاجئين، التي عدا المشكلة الأولى التي تمثلت بأعباء استيعاب أعدادهم الكبيرة، نشأ خلل آخر على مستوى التوازنات الطائفية الداخلية الدقيقة (فغالبية اللاجئين هم سنّة)، وقدومهم تسبّب بالهجرة الداخلية الكثيفة، لسكان الجنوب ذي الغالبية الشيعية، من الريف (بخصوصيات سكانه) نحو بيروت، جراء انقطاع تواصل السكان الاقتصادي والاجتماعي مع فلسطين من جهة، ومنافسة اليد العاملة الفلسطينية الرخيصة من جهة أخرى.
نتجت من ذلك توترات اجتماعية تقليدية ريف – مدينة، لكنها في لبنان اتخذت طابعاً مذهبياً ودينياً، لأن غالبية النازحين من الجنوب من الشيعة الأفقر. نتجت من ذلك أيضاً إعادة تأجيج الشعور المزمن بالحرمان، ومقولة الحرمان الشيعي، (التي تجد جذورها في ممارسات السلطنة العثمانية وسياساتها التعسفية تجاه الملل والمذاهب الأخرى)، وما ترتّب عليها لاحقاً.
الخلل التأسيسي الآخر كان قد فرض اتفاق القاهرة عام 69 على لبنان وتداعياته على خلفية انتماء لبنان العربي، وتجاذب العلاقة بين لبنان "الديموقراطي" والأنظمة العربية ذات الطابع الأمني – العسكري والاستبدادي على تنوعاته ودرجاته وعجزه عن القيام بمهماته القومية التي نشأ على أساسها. سمح الاتفاق للفلسطينيين ـ السنّة ـ بحق العمل العسكري من جنوب لبنان مع ما عناه ذلك من رمي ثقل القضية الفلسطينية على لبنان، الطرف الأضعف في النظام العربي.
لكن ما كان يمكن تحقيق ذلك لولا خط الانقسام اللبناني الداخلي الذي يجعل من المسلمين ميالين الى القضايا العربية، بينما يميل المسيحيون الى الغرب وفرنسا خصوصاً. فاختل التوازن الداخلي الهش ووضع الفئتين في مواجهة بعضهما بعضاً، ومن ثم تدخل النظام السوري وانفجرت الحرب الأهلية.
لكن لا بد من الإشارة هنا، بالإضافة الى هذا الانقسام السياسي ذي الطابع الديني، الى انقسام آخر على المستوى الاقتصادي – الاجتماعي، إذ إن المسيحيين كانوا أيسر حالاً وأفضل تعليماً عموماً، مقابل المسلمين الأفقر على وجه الإجمال مع نوع من التخصيص في نوع الأعمال الممارسة للطرفين.
وذلك على خلفية جمود النظام اللبناني الذي أوصلت اليه ممارسات المارونية السياسية التي رفضت التخلي عن امتيازاتها عشية الحرب الأهلية.
أزمة الدولة الوطنية في المنطقة عموماً
وهنا لا بدّ من الإشارة الى أن أزمة الدولة في لبنان هي جزء من أزمة الدولة الوطنية الفاشلة التي نشأت في مرحلة ما بعد الاستعمار في المنطقة العربية، فلم تستطع النهوض بالمهمات التي وضعتها لنفسها: تحرير فلسطين والتنمية والديموقراطية، ناهيك بالوحدة العربية التي بدت البديل الذي يعوّض الصدمة والجرح الناتجين من انهيار الإمبراطورية العثمانية وتفككها ونهاية أسطورة "الخلافة الإسلامية".
ظلّت هذه الدولة التي تأسست عقب الحقبة الكولونيالية تبحث عن شرعية تقع خارجها. والمفارقة هي أن الدولة العربية المعاصرة نُظر اليها باسم الوعي القومي، على أنها مجرد مرحلة موقتة (من هنا اعتبار الدول العربية مجرد "أقطار") وخطوة تحضيرية أو شر لا بد منه بانتظار تأسيس الدولة القومية العربية الموحدة. ناهيك بالحنين الى الأمة الإسلامية الجامعة. من هنا جاذبية داعش مثلاً ومطالبته بالدولة الإسلامية!!
نتجت من ذلك المفارقة الآتية: في الوقت الذي قامت الدولة على شرعية ناقصة وأحيانا مفقودة نهائياً، فإن السلطة هي التي تكفّلت على طريقتها تجاوز الإشكالية البنيوية للدولة الوطنية العربية المتعلقة بالإشكالية الشرعية. وبدل أن تبحث عن شرعيتها في تحقيق الديموقراطية والتنمية، لجأت الى الشرعية الوحيدة المتوافرة لديها كسلطة، وهي شرعية العنف المتوجّه إلى الداخل. ومن هنا نجد أن الطابع الغالب على الدولة الوطنية العربية هو كونها دولة أمنية مستبدة بامتياز، أفقرت شعوبها وقمعتها. إضافة الى أن منها من بحثت عن الشرعية عبر استخدام الدين غطاءً برغم "علمانيتها" المفترضة كحالة مصر التي اعتمدت على "الإخوان" أيام السادات، أو عبر سحق "الإخوان" باسم العلمانية لقمع الشعب كما في سوريا.
اعتبار لبنان نموذجاً "للكيان المصطنع"
وأكثر ما تجسدت لا شرعية الدولة – الأمة او الدولة – الوطنية في دولة لبنان الذي ظل لفترة قريبة ينظر اليه كأكثر "الكيانات اصطناعاً"؟! وإذا ما بحثنا عن السبب في استسهال إلصاق صفة "الاصطناع" هذه ربما لن نجد سوى صغر مساحته واختلاف تجربته!! ذلك أن الدول المجاورة، بخاصة الجمهورية السورية التي تشكلت بعده، لم يكن لها أي شرعية إضافية على شرعيته. وما يساعد أيضاً على ذلك اقتناع بعض أبنائه بهذه الصفة والالتحاق الدوري لطائفة من طوائفه وتبعيتها وولائها التامين لدولة خارجية، للاستقواء والهيمنة، تارة باسم القومية وتارة باسم الدين وأخرى باسم المذهب.
طبعاً كل ذلك يخضع الآن لمراجعة فرضتها طلائع ثورة 2017 بخلفية وطنية اجتماعية لم تأخذ مداها بعد. | |
|