| | Date: Sep 24, 2020 | Source: جريدة الشرق الأوسط | | جهنم لبنان: شعب القوارب وعبيد الطوائف - حسام عيتاني | معيار النجاح الأقصى في لبنان اليوم هو الخروج منه أو إبعاد الأبناء والأطفال عنه ونقلهم إلى أماكن آمنة، حيث يكملون حياتهم ودراستهم من دون عوائق الانهيار المحلي المتصاعد. المعيار الثاني للنجاح هو القدرة على الالتفاف على صعوبات الأزمات المعيشية عبر تسلم بعضٍ من أوراق العملات الصعبة من الأقارب المقيمين في الخارج خصوصاً، ما يتيح متابعة مستوى من العيش صار من أحلام عزيزة على أكثرية المواطنين.
أخيراً، بات يسع اللبنانيون الاعتراف بأن بلدهم لم يعد يصلح لعيشهم بينما يجد آخرون أنفسهم عالقين وسط الفقر والغلاء والمرض والموت من دون أمل «بنجاح» من النجاحات التي حددتها الحالة المستجدة. أكثرية اللبنانيين لن تهاجر ولن تفلح في إبعاد شبانها إلى أماكن تجري فيها حياة تستحق هذه التسمية. بل إنها ستعاني من تفاصيل التَّفتُّت العاصف بالمجتمع والدولة ونفذ إلى أشكال التضامن الاجتماعي التقليدي داخل العائلات وسكان الأحياء والقرى والذي وفّر قليلاً من الحماية للشرائح الضعيفة والمهمشة من اللبنانيين، بعدما استنزف المجتمع بأسره وعمّت تبعات الكارثة كل الفئات على نحو لم يشهده «لبنان الكبير» منذ إنشائه قبل مائة عام.
إذا اعتمدنا مصطلح «العامة» على اللبنانيين الذين تتشابه حالتهم مع ما سبق وصفه، فإن «الخاصة» يعيشون في عالم آخر. سماته ليست توفر المستويات المعتادة من الرفاهية التي لم يعرفها اللبنانيون في حياتهم فحسب، بل تبني سكانه تصوراً آخر لما يدور في هذه البلاد. تصور ينبع من انفصالهم التام عن الواقع. الأزمة، في زعمهم، لا ترمي إلى إنقاذ مواطنيهم من الاحتضار اليومي والذل المتفاقم، بل في كيفية تقاسم السلطة على نحو يخفف من خطر انهيار نظامهم. لم يُعرف عن الطبقة السياسية اللبنانية، مع بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة، أي اهتمام بالمعاناة العادية للناس العاديين ولا بآمال هؤلاء في حياة كريمة، وتعليم أبنائهم ورفع مستواهم المعيشي من خلال العمل الشريف. هذه ترهات لا تعني السياسيين. الأزمة في عُرفهم هي إدارة الصراع الطائفي الدائم (لا حله) وتقاسم الغنائم وأسلاب المال العام ونيل رضا الممولين الخارجيين. ما عدا ذلك، بضائع تُعرض في سوق المزايدات والمناقصات واستنفار العصبيات والغرائز والحضّ على التذابح الأهلي.
مشكلة «الخاصة» من علية القوم هي تحقيق المعادلة اللازمة لتأبيد جلوسهم على رقاب أتباعهم وعبيدهم وإقناع هؤلاء بأن سلوكاً يتراوح بين الفجور وبين الذِّمية، هو ضريبة لا مفر منها حتى لا يستولى الآخر على فتات الوظائف والخدمات التي يوفّرها زعيم الطائفة لرعاياه. وهذان (الفجور والذمية) هما حدَّا الممارسة السياسية في لبنان.
في المقابل، يصعب اعتبار تدهور الخدمات العامة وما يرافقه من انفلات أمني وتفاقم للجرائم العنيفة وسط شعور خانق بالانسداد الكامل في الأفق، بعد نحو العام على بداية الأزمة الاقتصادية والسياسية الشاملة، حافزاً لتحركات مطلبية أو شعبية أو تمهيداً لدخول لاعب جديد إلى ساحة السياسة، على ما يأمل البعض. المفارقة أن بيت الشعر الذي قاله نزار قباني ومنعت السلطات اللبنانية غناءه «إن الثورة تُولد من رحم الأحزان» في مهرجان فني قبل شهور، لم يعد قابلاً للتحقق من أصل. ولا يملك الاعتقاد القائل بتحول البؤس إلى رافعة ثورية ما يخرجه إلى أرض الواقع اللبناني. البؤس هنا لن يستجرّ سوى المزيد من البؤس والفرار والتخلي عن المحاولات التي تبدو اليوم عقيمة لتغيير النظام الحاكم بالمظاهرة والأغنية والاعتصام.
إنها جهنم، على ما قال رئيس الجمهورية في آخر إطلالاته، محذراً من فشل تشكيل الحكومة وتوقف المبادرة الفرنسية. لكن فات الرئيس المتلعثم والمرتبك أن مواطنيه يعيشون في جهنم هذه حتى لو قيّدها هو بشروط تصدر عن وعيه ووعي نظرائه المحدود والانتهازي. يومياً تُقلِع قوارب متهالكة في غفلة من الأجهزة الأمنية أو بتواطؤ بينها وبين المهربين، وعلى متونها مئات الفقراء اليائسين والباحثين عن فرصة عمل أو لقمة خبز. مات عشرات منهم في حادث لم يلقَ كبير اهتمام من سياسيي لبنان ووسائل إعلامه وما زالت الأمواج تقذف إلى الشواطئ جثثاً نهشتها وحوش البحر بعدما حرمتها وحوش البشر من حقها في الحياة.
انقسم اللبنانيون بين من ينتمي إلى «شعب القوارب» الباحث عن باب يعبر منه إلى أي مكان في العالم يضمن بقاءه على وجه الأرض، وبين جماهير الطوائف الغاضبة والمستنفرة والمسلحة التي لا ترى غير وجه زعيمها الصبوح يقودها إلى أيام تملؤها الدماء تحت لافتات الكرامة والانتصار والدفاع عن مكتسبات الجماعة.
كل هذا فيما يُجمع محللون يجتهدون في اختيار ربطات العنق والتزلف المرئي والمسموع، على أن الوضع سيسوء قبل الانتخابات الأميركية، وأن لبنان سيدفع ثمن هذا النزال إلى أن يتوصل الأميركيون والإيرانيون إلى تسوية تسمح للبنانيين بلعق جراحهم المفتوحة والاستعداد لجولة مقبلة من الرقص بين القبور. | |
|