| | Date: Sep 4, 2020 | Source: جريدة الشرق الأوسط | | الأوهام الإمبراطورية وحكايات الخراب! - أكرم البني |
لم تكن عبثية كلمات إردوغان حين هدد اليونان بأن مصيرها الخراب، إن تجرأت وتصدت لما يعتبره حقوقاً لبلاده في مياه البحر المتوسط، بعد اكتشاف احتياطيات كبيرة من الغاز هناك، ما دامت لغة الحرب وحكايات التعدي والتخريب قد غدت صنو هوسه وأوهامه بإحياء الإمبراطورية العثمانية وتاريخها الأسود، وما دام يعلن جهاراً أنه لا يجوز حصر بلاده في مساحة صغيرة حددت لها منذ تسعين عاماً، طامعاً في بعث ما يسمى «الوطن الأزرق»، ومستحضراً تاريخ أجداده الذين سفكوا الدماء في سواحل البحار الثلاثة: إيجه، والبحر الأسود، والأبيض المتوسط، وتالياً شناعة غزوات القتل والتدمير التي قادها خير الدين بربروس، للتمدد في دول الجوار والاستيلاء على أراضيها وثرواتها والتنكيل بشعوبها.
باكورة حكايات الخراب الإردوغانية تجلت بمحاولات استثماره أزمات المنطقة التي رافقت ما عرفت بموجات «الربيع العربي»، عندما لم يوفر جهداً في تقديم كافة أشكال الدعم لتيارات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين»، لتمكينهم من السيطرة على حراك الناس البسطاء، ما أجج صراعاً تناحرياً بين القوى الدينية والمدنية، وأفضى لتفكيك بعض بلدان الربيع العربي، وتدمير اجتماعها الوطني.
صحيح أن أطماع إردوغان تلقت ضربة قوية مع سقوط حكم «الإخوان» في مصر؛ لكنه سارع للتعويض بتعزيز تدخله في سوريا، وتوغله عسكرياً في أراضيها، متوسلاً تحالفات مغرضة مع الإرهابيين الإسلامويين هناك، وتسخيرهم لخدمة مآربه، ربطاً بإصراره على ترك بعض مخالبه العسكرية في العراق، وتكرار قصفه واعتداءاته على أراضي ذلك البلد، بحجة مواجهة الإرهاب الكردي، من دون أن ننسى دعمه لـ«التجمع اليمني للإصلاح»، أو ما يسمى «إخوان اليمن»، مادياً، تحت ستار العمل الإغاثي، وإعلامياً بتوفير فرص لبث قنوات دعاويه لهم من إسطنبول. وكان الأسوأ تدخله العسكري الشرس في ليبيا، وإرسال بعض قواته البرية والبحرية كما الآلاف من الإرهابيين من مجموعات مسلحة سورية وتركمانية، للقتال إلى جانب الميليشيا الخاضعة لحكومة السراج، معولاً على تحقيق نفوذ كبير في ليبيا، للإفادة من ثرواتها النفطية، ولتعزيز ابتزازه لأوروبا، عبر توسيع تحكمه في فتح وإغلاق منافذ الهجرة إليها.
ما سبق انعكس بحكايات خراب داخلي؛ حيث خلفت اندفاعات إردوغان العدوانية آثاراً اقتصادية واجتماعية وخيمة في المجتمع التركي، أوضح تجلياتها الانهيار الكبير لعدد من مؤشرات البورصة، وتواتر هروب الرساميل وخصوصاً للمستثمرين الأجانب، وتفاقم البطالة والغلاء، والانخفاض المتسارع لقيمة الليرة التركية، عدا عن أنها كشفت مدى انحطاطه السياسي في استغلال العواطف الدينية لتأجيج الفتن الطائفية، عبر قرارات مبيتة لقضم معالم العلمانية الحضارية التي ميزت تركيا، وآخرها قراره المغرض بتحويل كنيسة «آيا صوفيا» إلى مسجد، والأهم أنها كشفت حجم ازدرائه لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية التي طالما تبجح بها، كما شدة إمعانه في التنكيل بالمعارضة التي غصت بها السجون، وإصراره على طمس التنوع العرقي، بإنكار حقوق الأقليات الإثنية من أكراد وعرب وشركس وغيرهم، فضلاً عن تشديد الخناق على الصحافة لأوهى الأسباب، وقمع الأقلام الحرة، لدرجة أصبحت معها تركيا تحتل مرتبة متأخرة جداً في مؤشر حرية التعبير، وباتت توصف بأكبر سجن عالمي للصحافيين.
من جهة أخرى، لا يحتاج المرء لكثير من التفكير كي يتمثل حقيقة قالها غير محلل سياسي أو مسؤول غربي، بأنه ليس من مكان تدخلت فيه إيران إلا وغدا مدمراً، ويستجدي المساعدات الأممية كي يستمر في الحياة، في إشارة لحجم الخراب الذي رافق ولا يزال أوهام السلطات الإيرانية لمد سيطرتها وتوسيع نفوذها الإقليمي.
والحال، لم يُخفِ زعماء طهران بعد انتصار ما يسمونه ثورتهم الإسلامية، مطامعهم لاستعادة الإرث الإمبراطوري الفارسي؛ لكن عبر شعارات دينية وأدوات طائفية. وإذا أخذنا في الاعتبار تبني نظام الملالي في طهران لما يسميه حقوقاً «عالمية» للإسلام، ومجاهرته بنصرة المستضعفين في الأرض، وبتحرير فلسطين، ومواجهة الصهيونية والشيطان الأميركي الأكبر، ثم الترويج لأوهام التفوق القومي والتمايز كشعب على الآخرين، وتكريس ذلك في الدستور والتعليم، وأخذنا بالاعتبار أيضاً مفاخرة حكام طهران بسيطرتهم على أربع عواصم عربية، وحديثهم عن أن إيران تعيش على 30 في المائة فقط من حدودها التاريخية، يمكننا الوقوف عند أهم أسباب النهج العدواني والتخريبي لحكام طهران، ودوافع دأبهم على منطق القوة والغلبة لتصدير ثورتهم وتوسيع نفوذهم إقليمياً، وتالياً دورهم في تفتيت بعض المجتمعات العربية طائفياً، متوسلين رايات مذهبية وأذرعاً عسكرية منفلتة من كل وازع أو رادع، كالميليشيا الشيعية في العراق و«حزب الله» اللبناني وجماعات الحوثي في اليمن ونظام الحكم الدموي في سوريا، من دون أن يرف لهم جفن إن غدت بغداد وبيروت وصنعاء ودمشق عناوين للدمار والخراب وللدول الفاشلة.
وعن وجوه خراب إيران الداخلي، حدِّث ولا حرج عن عسكرة الحياة وإفقارها وتدمير خلايا التجدد في المجتمع، وتحويله لمجتمع ضعيف ومنهك تأكله أزمات متراكبة ومتراكمة، جراء امتصاص طاقاته وثرواته في معارك النفوذ الإقليمي، بدليل الأوضاع الاقتصادية المأساوية، والتدهور المريع للعملة الإيرانية، وغياب الحد الأدنى من مقومات المعيشة، وذاك الفتك السريع لفيروس «كورونا» بالإيرانيين، ولا يغيب عن المشهد تواتر عمليات التصفية والقتل للمعارضين، وموجات اعتقال وتغييب طالت عشرات الألوف من المتظاهرين الرافضين لاستمرار التسلط والفساد!
ويبقى أن دعاة بعث الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية الذين راهنوا على المشترك الديني وعلى مزايداتهم بنصرة القضية الفلسطينية، لاستمالة الشعوب العربية، قد أخفقوا في رهانهم، بعد أن فضحت النتائج والوقائع في غير مكان زيف ادعاءاتهم، وكشفت حقيقة مطامعهم الأنانية في ثروات الآخرين، ودوافعهم السياسية لتعزيز أوراق نفوذهم وقدرتهم على الابتزاز، والتي لا تمت للإسلام وفلسطين بصلة.
صحيح أن ثمة فرص نجاح مؤقت للتمدد وتوسيع النفوذ الخارجي، وتالياً لإحياء وتغذية نزعات إمبراطورية من ماضٍ غابر؛ لكن الصحيح أيضاً أن هذه الطريق باتت اليوم مؤلمة ومكلفة ومرفوضة من مختلف الشعوب، أياً تكن المسوغات، ولنقل تفتح الباب على خيار يفيض بالصراعات العبثية والدمار والضحايا والأزمات، وكلنا يتذكر ما حل بالاتحاد السوفياتي وأوهامه الإمبراطورية، وبعده انكفاء الولايات المتحدة، إثر عجزها عن إدارة طموحها الإمبراطوري تحت وطأة نتائج حربيها في أفغانستان والعراق. | |
|