Date: Aug 13, 2020
Source: جريدة الشرق الأوسط
كارثة بيروت وسط شرعيتين - حسام عيتاني
لم يُدرك طغاة لبنان هول ما جرى في بيروت. لم يشعروا بالعصف الذي اقتحم غرف نوم ومعيشة مئات آلاف اللبنانيين، ولا بانهمار شظايا الزجاج وحطام الأحجار ونثار الأخشاب عليهم وعلى أطفالهم الغافلين عن أن جريمة خرافية الأبعاد تُحضَّر لهم.

لم يبالوا بمئات القتلى، ولا أن هؤلاء ليسوا رقماً، بل هم آباء وأمهات وأبناء وبنات وأحباء لأناس لا يقلون أهمية عن المسؤولين الفاسدين، ومن بينهم من لا يتجاوز الثلاث سنوات من العمر. ولم يحفلوا بآلاف الجرحى الذين أصابهم الانفجار إصابات سترافقهم ما تبقى لهم من عمر، ولا بالمعاناة التي واجهها هؤلاء أمام المستشفيات المكتظة والمدمرة، ببقاء مئات منهم ساعات طويلة ينزف دمه قبل الحصول على الرعاية اللازمة.

تصرفوا بلا مبالاة إجرامية مع الضحايا، وتركوا عشرات الأحياء تحت الأنقاض، من دون أن يدفعوا بالآليات والرافعات الثقيلة لإنقاذهم، كما كانت لتفعل أي سلطة تتمتع بحد أدنى من الأخلاق والمسؤولية والكفاءة. مات عشرات المفقودين قبل أن تصل فرق الإنقاذ إليهم بسبب إهمال السياسيين، وتآكل المؤسسات المعنية بالإنقاذ. وانضم إلى الضحايا عدد كبير من عناصر الإطفاء والدفاع المدني الذين لم تبلغهم السلطات بخطورة المهمة التي أوكلتها لهم عند محاولة تطويق الحريق الذي تسبب في الانفجار الهائل.

أو لعل هذه الطغمة أدركت وشعرت، لكنها لم تقارب المصيبة إلا من زاوية مصالحها المباشرة: كيف نستفيد من إعادة الإعمار؟ كيف نتقاسم المساعدات التي قد تصل؟ من سيعيد بناء الإهراءات؟ ومن سيرمم الشقق السكنية؟ وما الأرباح التي سيجنيها كل منهم بعد الانتهاء من لملمة جثث الضحايا وتوقف عويل الأرامل والأيتام؟ فلا يخفى أن السياسيين اللبنانيين، من دون استثناء، يسيطرون على قطاعات المقاولات والبناء، ويسعهم سرقة كل ما قد يأتي من هبات دولية أو عربية، ما لم تتجه هذه مباشرة إلى الضحايا، من دون المرور بمغارة الدولة الفاسدة.

مقاربة مشابهة تجري على المستوى السياسي؛ سارعت الجماعة المتسلطة على اللبنانيين، فور تقديم حسان دياب استقالة حكومته مساء الاثنين 10 أغسطس (آب)، إلى إطلاق البحث في تشكيل حكومة بديلة. الأسماء والمعلومات التي نُشرت وسُربت تشير إلى استعادة حرفية للطريقة التي دأبت هذه المجموعة على استخدامها في تشكيل سلطتها منذ عقود: تمثيل القوى الطائفية الرئيسية، والكتل الحزبية الممثلة في البرلمان، مع مراعاة التوازنات الإقليمية والدولية، طمعاً في «إقناع» العالم بأن معالجة جدية للكوارث التي جلبها هؤلاء الأشخاص على أكثرية اللبنانيين قد بدأت.

في واقع الأمر، إن ما تخطط له «الطبقة السياسية» التي ارتقت من الفساد إلى الإجرام الصريح ليس أكثر من إعادة إنتاج لهيمنتها على مقدرات الدولة، وسط اعتقاد بأن الدول الغربية ستوافق على هذه المقاربة، استناداً إلى ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أثناء زيارته إلى بيروت المنكوبة، وخلال مؤتمر الدول الداعمة يوم الأحد 9 أغسطس. والحال أن الموقفين الفرنسي والأوروبي يذهبان في اتجاه إبقاء المشهد السياسي على حاله، من دون تغيير جدي قد يقود - في حال فشله - إلى انهيار آخر ما تبقى من أعمدة السلطة.

يطرح كل ذلك مشكلة كبيرة: هل ما زال السياسيون اللبنانيون يمثلون أكثرية المواطنين؟ وبالتالي، هل ما زالوا محتفظين بالشرعية التمثيلية حتى يحق لهم التحدث باسم الشعب، وتشكيل الحكومة المقبلة على المنوال والشكل ذاتهما اللذين خبرهما وعانا منهما اللبنانيون؟ الغالب على الظن أن انعدام المحاسبة الفعلية في النظام السياسي اللبناني المتشكل من مجموعة من الديكتاتوريات الصغيرة، يتولى كل منها احتكار تمثيل جماعته الأهلية، والنطق باسمها والتعبير عن مصالحها المفترضة، يحول دون تحسس التغيرات التي تعتمل في الشارع منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول)، خصوصاً أن القوة المسلحة غير الشرعية ساندت هذه المنظومة، وأكدت مراراً، وبما لا يدع مجالاً للشك أو التردد، أنها ستمنع التغيير السلمي الديمقراطي بالقوة، ولو تطلب ذلك إزهاق الأرواح ومزيداً من الدمار.

وعليه، بات لبنان يحتضن شرعيتين لا صلة بينهما: شرعية شعبية تعبر عنها «انتفاضة 17 تشرين» التي كررت في مظاهراتها الأخيرة، يوم السبت 8 أغسطس، حداداً على ضحايا الانفجار، استعراض أزمتها العميقة، وعجزها عن صوغ برنامج، وإنتاج قيادة حقيقية تتحدى الطغمة الفاسدة؛ والشرعية التمثيلية التي يتربع أعضاؤها على مقاعدهم مطمئنين اطمئناناً عميقاً إلى غياب البديل الكفيل بمحاسبتهم، وجرهم إلى المحاكم والسجون، وتعليقهم على المشانق، كما يستحقون.

شرعيتان مأزومتان تتعايشان من دون أن تعترف الثانية بالأولى، ومن دون أن تفلح هذه في التحول إلى لاعب سياسي جدي وازن، قادر على التفاوض وفرض الشروط، وذلك على أرض تتقلص مساحتها، وبين جثث تتكاثر وبيوت تنهار.

فلا يبقى من هذا المشهد إلا طعم المرارة ورائحة العفن ونعيق البوم.