Date: May 30, 2019
Source: جريدة الحياة
يزول التأخر من مجتمعاتنا بإزالة بذوره - حميد الكفائي
يتساءل كثيرون بحرقة وحسرة عن سبب تأخرنا كأمة عربية وشعوب إسلامية عن باقي الأمم والدول، ولماذا لا نتمكن من العيش كباقي شعوب العالم في وئام وسلام وأمان، ومن دون تهديد أو أخطار وفقر أو تناحر. وهذا تساؤل مشروع خصوصاً بعدما أصبحت المعلومات متاحة للجميع، وأصبحنا نرى كيف تعيش شعوب العالم الأخرى بفضل انتشار وسائل الاتصال والإعلام والتواصل، التي أخذت تسلط الأضواء على كل شيء وتكشفه. بات بإمكاننا الآن أن نقارن بدقة وموضوعية بين مستوى الحياة في مجتمعاتنا ومستواه في المجتمعات أخرى.

ليس صعبا على مجتمعاتنا أن تتطور، وتصبح فعالة ومنتجة ومتسامحة ومنسجمة مع بعضها، فهذا ممكن، خصوصاً وأن وسائل التطور موجودة عندنا، إذ لدينا من القدرات البشرية الخلاقة، والعقول النيرة، والخبرات المتراكمة، ما يمكّننا من ذلك، ولكننا نحتاج قبل هذا إلى إزالة معوقات التطور والنمو، وهي كثيرة من دون شك، بل تشكل عقبة في الطريق إلى المستقبل، لأنها تنثر بذور ديمومتها، في حين أننا لم نبتكر بعد طرقاً لمواجهتها.

أول ما يجب أن يتغير في مجتمعاتنا، النظرة السلبية إلى المرأة التي يُلْبِسها البعض تعسفاً لباساً دينياً، بينما الحقيقة أنها تتعلق بعادات وتقاليد انتشرت بسبب سوء الفهم الحاصل في بعض المجتمعات على أنها مرتبطة بالإسلام وهو بريء منها، ويعزو المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم في كتابه "الحديث عن المرأة والديانات" الكثير من هذه العادات والتقاليد إلى نصوص دينية قديمة وتقاليد قبلية سبقت مجيء الإسلام بمئات أو آلاف السنين، منها مثلاً ما ينتمي إلى "قانون حمورابي" في العراق، أو إلى عادات قبلية نشأت في دولة قرطاجة في تونس وليبيا، التي سبقت مجيء الإسلام بألف عام، لكن بعضنا ما زال متمسكاً بها معتبراً إياها مقدسة، أو منسجمة مع الحياة والدين.

وعلى رغم أن المرأة حققت تقدماً في معظم المجتمعات العربية، خصوصاً في مجال التعلم واكتساب الشهادات العلمية، إلا أنها ما زالت غائبة نسبياً عن سوق العمل، وتحتاج لأن تدخل هذا المجال بقوة، لتسهم في النهضة. الثروة التي نراها في المجتمعات الأخرى تأتي من ممارسة أفراد المجتمع جميعاً العمل المنتج، وإذا بقيت شريحة كبيرة في مجتمعاتنا معطلة، فستبقى شعوبنا فقيرة مهما امتلكت من ثروات طبيعية.

هناك ظاهرة أخرى تطورت في مجتمعاتنا وأصبحت شائعة خلال القرن الماضي، ألا وهي ظاهرة شعور الفرد بأنه يعرف كل شيء وأنه على حق وغيره على باطل، وهذه مشكلة حقيقية لأنها توهم الشخص بأن ما يعتقده صحيح وكل ما يخالفه خاطئ. لذلك، تجده يسعى إلى إرغام الآخرين بشتى السبل، بما فيها العنف، على القبول برأيه. هذه الظاهرة منتشرة في بلدان عربية عدة، وهي تحتاج إلى معالجة جدية عبر برامج ثقافية قد تتخذ أشكالا شتى، من المسلسلات التلفزيونية، إلى البرامج الفكاهية والترفيهية، إلى الكتب واللافتات التي تحض على الاهتمام بالثقافة والتعلم وترك المرء ما لا يعنيه كما يقول الحديث الشريف. إن من يتمدد خارج نطاق معرفته ويؤمن بأنه يعرف كل شيء لديه مشكلة عميقة، وسيتسبب في خلق مشكلة للمجتمع ككل. وهذا النهج تحديداً، هو الذي يقود الناس إلى التطرف. المتطرفون يعتقدون جازمين بأنهم على حق في اعتقاداتهم الدينية الخاطئة، وهم لا يراجعون أنفسهم لأنهم مؤمنون بأن أفكارهم صحيحة، ولو راجعوا أنفسهم واستمعوا إلى رأي العلماء والمختصين، لكانوا عرفوا مواضع الخلل في تفكيرهم.

يجب أن تسود مجتمعاتنا الثقافة العقلانية، ومن الضروري أن يتصرف الفرد ضمن الحدود التي يسمح بها تخصصه وتجربته، وهذه هي العقلانية بعينها، أي الاستماع إلى المختصين وأهل الخبرة والمعرفة، وهي أيضا ما يحث عليه الدين، ومع تزايد انتشار المعلومات وتسارعه في كل الاتجاهات، أصبح من المستحيل أن تتمدد معرفة الإنسان خارج تخصصه الدقيق، لأنه إن أراد أن يبدع أو يتقن عمله، فهو بحاجة إلى متابعة يومية لمعرفة المستجدات، ولن يجد الوقت الكافي للتعرف على العلوم الأخرى. ومع ذلك، ما زال في مجتمعاتنا من يتوهم بأن بإمكانه أن يكون موسوعياً ويعرف كل شيء، من الدين إلى السياسة والتاريخ والاقتصاد والعلوم الاجتماعية.

المشكلة الأكثر تعقيداً، هي لجوء الرافضين للرأي الآخر أو السلوك المختلف، إلى العنف، إذ أصبح المثقف معرضا للقتل، من دون أن يعرف من الذي يريد قتله وأي فكرة يمكن أن تقود إلى ذلك. لم يعد المثقف والمفكر يجرؤ على البوح بآرائه حول شؤون المجتمع والدولة والدين، لأنه سيواجَه بأعنف ردود الفعل، ليس من الحكومات التي أصبح بعضها عاجزاً عن حمايته، بل من الناس الذين يتحكم بهم المتطرفون. كان مجتمعنا إلى عهد قريب أكثر تسامحاً، وكان مفكرونا ومثقفونا يصرحون علناً بآرائهم الجدلية، فطه حسين لم يخشَ أحدا عندما كتب "في الشعر الجاهلي"، ولم يشعر علي الوردي بخطر عندما كتب "وعاظ السلاطين" ولا نجيب محفوظ حينما كتب "أولاد حارتنا"، علماً أنهم واجهوا انتقادات واحتجاجات. في العهود المتأخرة، أصبح المثقف والمفكر يقتل قبل أن يدلي برأيه، إذ قتل علاء مشذوب وكامل شياع وقاسم إعجام وشكري بلعيد وفرج فودة من دون أن يهددوا أحداً أو يشكلوا خطراً على أحد.

يقول المفكر الإنكليزي جون ستيورات ميل: "إن كان بنو البشر جميعاً، عدا فرد واحد، قد أجمعوا على رأي، وأن ذلك الفرد له رأي مختلف، فلا يحق لبني البشر أن يسكِتوه، تماما ًكما لا يحق للفرد المعني، لو كان قادراً، أن يُخرِسهم". ويتابع ميل: "إن إسكات أي فكرة، يعني حرمان الجنس البشري، الأجيال الحالية والمقبلة، من الذين يختلفون مع الفكرة أكثر من الذين يتفقون معها. وإذا كانت الفكرة صحيحة، فإن بني البشر سيُحرَمون من فرصة استبدال الخطأ بالحقيقة، وإن كانت خاطئة، فإنهم سيخسرون منفعة لا تقل أهمية، ألا وهي اكتساب اليقين بعد أن تصطدم الحقيقة بالأكذوبة".

بذور التأخر والفقر والجهل ما زالت تُزرع وتنتشر، بينما جهود إيقافها ما تزال متعثرة. المتطرفون يريدون أن يسكتوا الناس جميعاً ويقهرونهم ليتسيدوا عليهم ويسوموهم سوء العذاب. ليس من العدل والإنصاف أن تبقى شعوبنا فقيرة ومتأخرة، لمجرد أن هناك قلة قليلة يحلو لها أن تمنع التطور وتنقل الناس إلى عهود ما قبل التاريخ، فتمارس الإرهاب والعنف لإرغام الناس على الصمت. آن الآوان لتضطلع الحكومات والمؤسسات الثقافية والاقتصادية والقانونية بدورها في حماية المثقفين والمفكرين والصحافيين وأصحاب الرأي، ليتمكنوا من تنوير المجتمع والنهوض بالدولة.

* كاتب عراقي مقيم في لندن.