| | Date: May 26, 2019 | Source: جريدة الحياة | | ليبيا من حالة الأزمة إلى حالة الحرب - محمد بدر الدين زايد | أدلى مبعوث الأمم المتحدة الدكتور غسان سلامة بإفادته أمام مجلس الأمن منذ أيام، إذ عبر عن مخاوفه من أن يكون ما يحدث في ليبيا مجرد بداية لحرب طويلة، واستعرض الأوضاع الإنسانية المثيرة للقلق بالفعل، ونزوح آلاف من سكان العاصمة طرابلس، ووقوع 460 قتيلاً بينهم 29 مدنياً، وإن ذكر رقماً غريباً حول وجود 2400 جريح من المدنيين، وكأنه ليس بينهم مقاتلون، كما لا يفسر أن هذا الرقم كله من المدنيين إلا التساؤلات في دقة هذه الأرقام، الأهم أنه عبر عن قلقه من عودة "داعش" للمناطق الجنوبية نتيجة تركيز القوات الغربية. هكذا وصف عناصر الميليشيات وربما بينها بعض عناصر منتمية للجيش سابقاً وهي تلك المؤيدة لحكومة الوفاق الوطني، كما أشار أيضاً إلى ظهور متطرفين وأشخاص -شملتهم عقوبات دولية ومطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية– في ساحة المعارك من جميع الأطراف. ووصف قوات الجيش الوطني الليبي بأنها قوات حفتر، ما أثار ردود فعل تالية نعرض إليها بعد ذلك، كما دعا سلامة إلى وقف تهريب الأسلحة إلى ليبيا وضرورة التحرك السريع لمنع انزلاق ليبيا إلى حرب أهلية.
من ناحيته أعرب الجيش الليبي عن استيائه من بيان سلامة، واستخدام هذا التعبير أي قوات المشير حفتر، ووصفه للطرف الآخر بأنه قوات عسكرية تتبع حكومة الوفاق المعترف بها دولياً واتهم البيان سلامة صراحة بدعم مشروع الإسلام السياسي في ليبيا.
وكان السراج قد قام بجولة أوروبية، اعتبرتها مصادر البرلمان والجيش الليبي فاشلة أو على الأقل لم تحقق أهدافها، أخذاً في الاعتبار أن حفتر التقى أخيراً رئيس الوزراء الإيطالي كونتي، كما عقد لقاء آخر غامضاً مع ماكرون في الإليزيه، وفي كلا اللقاءين أكد الجانبان الفرنسي والإيطالي على ضرورة التهدئة وتجنب الحرب، بينما أوضح بيان لحفتر أنه كشف لماكرون عدم اكتمال شروط وقف إطلاق النار بعد، ومن ناحية أخرى هناك ترتيبات لزيارة قائد الجيش الليبي لواشنطن ولقاء الرئيس الأميركي ترامب، كما كان عقد لقاءين مع الرئيس عبدالفتاح السيسي في القاهرة أخيراً، ما يشكل كله خطوات واضحة من قطاع متزايد من المجتمع الدولي يدعم حملة القضاء على الميليشيات الإرهابية في ليبيا.
في مقابل هذا أصبح اللعب على المكشوف من الطرف الذي يؤيد الميليشيات بعد اعتراف قادة الأخيرة بأنها تلقت مساعدات عسكرية تركية، وقوامها بحسب قناة البي بي سي البريطانية دبابات وعربات عسكرية، كما يتردد في مصادر ليبية أنه كان معها شحنات أخرى من مرتزقة وإرهابيين سوريين وعراقيين، وهو أمر سبق حدوثه، وكنا نتوقعه بشكل خاص في ترتيبات تركيا لنقل هؤلاء الإرهابيين من إدلب السورية وفقاً لتعهداتها في سوتشي بهذا الصدد. وهو ما لم تنفه الحكومة التركية حتى الآن.
إذن، ما نراه في ليبيا يتفق مع الأسف مع توقعاتنا بأنه إذا امتدت المعارك زمنياً، فإن دور الأطراف الخارجية سيزداد وضوحاً، وأن من شأن هذا إضافة المزيد من التعقيد لهذه الأزمة التي تتجاوز هذه الحالة بالفعل إلى حالة الحرب الآن مع تبلور المعسكرين، معسكر الشرعية الحقيقي المؤيد من البرلمان الليبي أي الجيش الوطني الليبي، ومعسكر الإسلام السياسي والإخوان المسلمين والميليشيات، والذي نجح بتآمر دولي من أن يصطف خلف حكومة مؤيدة دولياً، وإن كان هذا التأييد يتآكل الآن تدريجياً وبشكل أسرع مما يتخيله مؤيدوه، وذلك بسبب إصرارهم على مواصلة تطبيق معاييرهم المزدوجة، ومراهنتهم على تأييد الخارج لاكتساب شرعية وهمية في الداخل.
حقيقة الأمر، أن معسكر حكومة الوفاق لم يستطع الحفاظ على فرصة التمكين للإسلام السياسي والمشاركة في حكم البلاد كما خطط له من أسسه، فلم يحاول إنهاء سيطرة الميليشيات بل كرس من وجودها، ولم يحاول تشكيل حكومة ائتلافية حقيقية، بل واصل إزاحة الآخرين بشكل تدريجي، فانتهى الأمر بزيادة عدد ممثليه في الحكومة، لم يتعظ في أن ما حققه أكبر من وجوده السياسي الحقيقي الذي يمكن أن تفرزه الانتخابات، ومن ثم يؤسس لبناء الثقة مع باقي مكونات المجتمع الليبي، بل ركز رسالته على التخويف من البعد العسكري وطموح قائد الجيش خليفة حفتر في الحكم، من دون أي محاولة لتغيير الظروف التي أرهقت الشعب الليبي من الأوضاع الراهنة.
وما يستحق النقاش والتوقف عنده هو موقف المبعوث الأممي سلامة، الذي كنت أتوقع منه شخصياً الكثير في البداية، فأنا أتفهم قلقه المشروع من اتساع الحرب وفقد الأرواح والممتلكات للشعب الليبي، ولكني لا أتفهم تلميحاته المتكررة ضد معسكر البرلمان والجيش الليبي، وقلة انتقاداته لمعسكر حكومة الوفاق التي يبدو أنه لم يستطع الفكاك من أسر من وضع ترتيباتها من سابقيه، كان يجب عليه، وكنت آمل شخصياً مع تاريخه الفكري والسياسي المعروف، أن يقرأ بموضوعية شديدة وتجرد ظروف تأسيس حكومة الوفاق الوطني، وأن يبدأ من هشاشة هذه النشأة خطوات الإصلاح ورسائل الطمأنة للطرف الثاني، وتحديدا البرلمان الليبي، لإزالة شكوكه ومخاوفه من التدخل الأممي، ويبدأ من هذه النقطة تحديداً، أي كسب ثقة البرلمان الليبي في بناء خطة سياسية جديدة تقوم على محورية دور هذا البرلمان، يعقبها تمرير صيغة تعايش للقوى السياسية المختلفة في ليبيا ليس من بينها الميليشيات غير المتطرفة. عبر سلامة عن قلقه لعودة ظهور أعلام "داعش" في الجنوب الليبي، وأن هذا بسبب انشغال القوات الموالية للوفاق في معركة طرابلس، فهل يصدق هذا حقيقة، وأن هؤلاء "الدواعش" لم يكونوا ساكنين بأوامر من حلفائهم مؤيدي الوفاق، والذين أصدروا لهم أوامر التحرك لإشاعة المخاوف، وتأكيد الرسالة السقيمة نفسها أن هؤلاء المعتدلين في الحكم هم الضمانة ضد انتشار التطرف، على وزن المثال نفسه الذي طرحته هنا بهذا الشأن منذ أسابيع، على لسان أحد قادة "الإخوان" في مصر من أنه بمجرد عودة مرسى للحكم سيتوقف الإرهاب في سيناء، فهل يصدق سلامة الخبير بشؤون منطقته وعالمه العربي هذه الحجة الفارغة التي صنعتها أطراف غربية وإقليمية وداخلية عربية لزيادة الخلل الذي تعيشه هذه المنطقة، بسبب كل التوظيف السياسي للدين والذي تقوده الأطراف الإقليمية التي ترعي هذه المشاريع؟ أن يفعل هذا برناردينو ليون فهذا أمر متوقع، ولكن ليس سلامة.
الحرب التي تشهدها ليبيا الآن تثير القلق والمخاوف، ولا أظن أن أحداً مخلصاً يرجو أن تطول الأمور بما تحمله من مخاطر وصعوبات للشعب الليبي قبل جيرانه، ولكن مفتاح المعالجة الحقيقية لمسببات هذا يجب أن يتم التعامل معها بشكل جدى وليس بمواصلة الأكاذيب والمعايير المزدوجة ولا بمواصلة تجاهل مسببات الأزمة الحقيقية.
* كاتب وديبلوماسي مصري سابق. | |
|