| | Date: May 20, 2019 | Source: جريدة الشرق الأوسط | | طبول المفاوضات بين «أميركا أولاً» و«إيران أولاً» - سام منسى | استكمالاً لما كتبه الزميل عبد الرحمن الراشد الأسبوع الماضي في «الشرق الأوسط» تحت عنوان «ماذا لو خذلَنا ترمب؟»، يبدو أن الأجواء تشي بميل دفة العلاقات الأميركية الإيرانية نحو طاولة المفاوضات. المؤشرات متعددة أبرزها دخول سويسرا على خط الوساطة وزيارة رئيسها المفاجئة لواشنطن واجتماعه بنظيره الأميركي، بعد إعلان هذا الأخير أن إدارته سلّمت السويسريين رقماً هاتفياً ليسلموه بدورهم إلى الإيرانيين في حال أرادوا التواصل مباشرة معه. إلى هذا، أجرى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، اتصالاً هاتفياً مع السلطان قابوس ناقشا فيه ما وُصف بالتهديدات الإيرانية للمنطقة الخليجية بشكل عام.
وتأتي هذه التحركات الدبلوماسية بعد تصريحات عدة لترمب أكد فيها أنه لا يرغب في حرب مع إيران وسط مناهضة الرأي العام الأميركي للانخراط في حرب جديدة، واعتبار العديد من الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين أن إيران ليست في أولويات واشنطن الاستراتيجية، وأن تهديدها لا يستحق الدخول في صراع كبير، إضافةً إلى استعداد البلاد بعد أشهر قليلة لدخول أجواء انتخابات الرئاسة لعام 2020، وتخوف من أن يجره الصقور بين كبار مستشاريه إلى مواجهة عسكرية مع طهران تجعله ينكث بوعد عدم خوض حرب جديدة.
وعلى الرغم من حاملات الطائرات والمدمرات التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى الخليج من جهة، وما يُحكى عن أوامر أصدرتها إيران لأذرعتها في الخارج لا سيما في العراق بضرورة الاستعداد للحرب، تبقى هذه التوترات مجرد خطوات مدروسة من الطرفين سيحُولان دون وصولها إلى مرحلة الانفجار، ما يُبقي الوضع على تخوم الحرب وليس قيام حرب فعلية.
في المقلب الآخر، لا يحبّذ القيمون على المنطقة بعامة ودول الخليج بخاصة اندلاع حرب جديدة يدركون مسبقاً أنها قد تكون مدمرة على الصعد كافة، ويتفادون الانزلاق باتجاه خطوات غير محسوبة تكون عود ثقاب يشعل المواجهة الكبرى. فعلى الرغم من حادثتي تخريب السفن قبالة سواحل إمارة الفجيرة الإماراتية وضرب طائرات مسيرة لمحطتي ضخ نفط في السعودية، اتسمت ردود فعل الدولتين بالحكمة وضبط النفس.
أما إيران وعلى الرغم من امتدادها الجيوسياسي والعسكري في المنطقة ومن أنها قد تدفع بأذرعتها إلى أعمال عدائية تستهدف حلفاء واشنطن، إلا أنها لن تبادر إلى اتخاذ خطوات متهورة كإغلاق مضيق هرمز، أو استهداف مصالح أميركية لأنها تدرك أن قرارات كهذه ستجرّ عليها حرباً مع الولايات المتحدة لن تكون في صالحها في ظل اختلال موازين القوة العسكرية والسياسية لصالح واشنطن وشبه الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تعاني منه جراء العقوبات.
إذاً، قد تكون طبول الحرب تُقرع، لكنها فارغة تجعل خيار المواجهة الشاملة مستبعداً وترجح خيار جلوس الطرفين إلى طاولة المفاوضات.
إن الدخول في المفاوضات لا يعني بالضرورة التوصل إلى تسوية لا سيما إذا كان موضوعها شائكاً ومتعدد الأوجه كالنزاع الأميركي الإيراني. فهو يحتاج إلى فترة طويلة وآليات معقدة قد لا تصل في النهاية إلى خواتيم سعيدة، لكن مجرد حصولها يمنح الطرفين فسحة لالتقاط الأنفاس ويخفف الضغوط عنهما، وهذا ما تحتاج إليه إيران خصوصاً وما قد تكون تبتغيه بالدرجة الأولى.
إن النظام الإيراني قائم على المخابرات، وهو نظام عقائدي وديني يهوى المناخات الرمادية أكثر من الحلول النهائية، لا سيما إذا استدعت منه تقديم تنازلات من المستحيل أن يقبل بها، لأنه يكون بذلك كمن يطلق الرصاص على نفسه.
في المقابل، يحتاج ترمب أيضاً إلى هذه الفسحة قبيل الانتخابات الرئاسية، كما يحتاج إلى جلب إيران إلى طاولة المفاوضات لتأكيد أولاً نجاح سياسة العصا الغليظة التي ينتهجها، وثانياً وفائه بوعد عدم جر بلاده إلى حرب جديدة.
قد يكون السؤال البدهي الذي يُطرح هو: ماذا ستكسب إيران من المفاوضات؟ السؤال الذي نطرحه هو: ماذا ستخسر لا سيما في المطلب الذي تميز به ترمب عن أوباما، أي تغيير سياساتها في المنطقة؟
على مدى أكثر من 30 عاماً، نسجت إيران تمددها في المنطقة بصبر، معتمدةً على البيئات المحلية، ونجحت عبر شبكة محكمة من الخدمات والعمل الدعوي في تنشئة أجيال موالين لها في العقيدة على حساب ولائهم للوطن. وتمكنت بواسطة هؤلاء من خوض حروب بالوكالة وفرض ما تقتضيه مصالحها ولكن بأيدٍ محلية. هذا التغلغل العقائدي والديني والاجتماعي في البيئات المحلية زرع إيران في المنطقة، ولن تتمكن أي مفاوضات من اقتلاعها منها، لأن ذلك يتطلب اقتلاع شرائح من المجتمعات المحلية. المثال الأبرز للانصهار الإيراني - المحلي يبقى «حزب الله» في لبنان. فعلى الرغم من ولائه الكامل لإيران، يظل الحزب حالة لبنانية خالصة، وأقصى ما قد تتوصل إليه المفاوضات هو لجم حراكه على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، لكنها ستصطدم بحائط من إسمنت في مسألة إمساكه بالطائفة الشيعية اللبنانية، وستتنصل إيران من كل مسؤولية، متحججةً بأنها «شأن لبناني بحت»، والمشكلة أنها ستكون محقة! قد تصل المفاوضات إلى تحجيم ترسانة الحزب العسكرية بما يؤمّن حدود إسرائيل وداخلها كما يحدّ من مغامراته الخارجية، لكنها لن تصل إلى نزع سلاحه بالكامل بما يخفف من نفوذه في الداخل اللبناني.
وتتضمن الأمثلة الأخرى «الحشد الشعبي» في العراق، والحوثيون في اليمن، وكيانات أخرى قد تظهر مستقبلاً في دول أخرى من المنطقة كسوريا مثلاً، وقد سمعنا مؤخراً عن نشوء ما يسمى «حزب الله السوري» في ريف حمص. إن هذه الكيانات نشأت نتيجة لتغلغل إيراني في المنطقة على مدى عقود لم يجد مَن يضع حداً له، ولن يسهل اقتلاعه.
في الشأن السوري، لن تخسر إيران شيئاً لأنها حصلت على ما كانت تريده، وهو المحافظة على النظام كدرع حماية لوجودها في لبنان. أما وجودها العسكري في الداخل السوري، فسوف يعالَج ضمن إطار التفاهمات الأميركية والروسية والإسرائيلية التي بدأت ملامحها تظهر. فروسيا لن تقدم مظلة واقية لإيران إلا في حدود تعزيز علاقاتها مع الأوروبيين والأميركيين، ومن غير المرجح أن تخرج طهران في سوريا عن الرؤية الروسية.
في العراق، يبدو أن الولايات المتحدة لن تسمح بسقوط العراق كلياً في الحضن الإيراني، ومن المرشح أن يتعزز عمقه العربي. إلا أن ذلك لا يعني إطلاقاً أننا سنشهد انسحاباً إيرانياً منه لا سيما مع تصاعد نفوذ ذراعها المحلية (الحشد الشعبي)، وهو كيان عراقي بات لاعباً أساسياً في صناعة القرار السياسي، وسيصعب على أي تسويات أن تتناول دوره.
التنازل الإيراني الممكن في المنطقة هو في اليمن، وبدأت تظهر بوادر تخلي طهران عن دعم ميليشيات الحوثي بسبب ضائقتها الاقتصادية أولاً، وبسبب خسائر هذه الميليشيات المتتالية والانشقاقات في صفوفها. إلى هذا فإن طهران ليست مهتمة باليمن كاهتمامها بلبنان وسوريا والعراق، واستغلت أزمته للضغط على دول الخليج وإبقائه ورقة تستخدمها في إطار الصراع الأكبر على السلطة في المنطقة.
قد نشهد أيضاً تنازلات إيرانية في ملفات أخرى كعلاقتها مع الصين، بحيث لن تسمح أميركا بتحالف بينهما يتضارب مع مصالحها الكبرى مع الصين.
قد تكون المفاوضات الأميركية الإيرانية بدلاً عن حرب ضائعة أو غير مستوفاة الشروط لدى الطرفين حتى الآن. الخلاصة، ثمة تلاقٍ بين شعار «أميركا أولاً» وشعار «النظام الإيراني أولاً» بما يحقق مصلحة الدولتين، إنما الاستقطاب بين طهران وخصومها من حلفاء واشنطن في المنطقة باقٍ وقد يكون ذلك رداً على سؤال «ماذا لو خذلَنا ترمب؟». | |
|