| | Date: May 18, 2019 | Source: جريدة النهار اللبنانية | | هل ستظهر إيران نمراً عسكرياً من ورق كما ظهر عبدالناصر وصدّام حسين؟ - جهاد الزين | نبدأ من النهاية لا من البداية. التجربتان المعاصرتان في الصراع مع إسرائيل أو أميركا انتهت كل منهما بفضيحة عسكرية. وهما التجربة الناصرية عام 1967 والتجربة الصدّامية عام 2003؟ لماذا إذن، وإيران جزء من تخلّف عالمنا المسلم علينا أن نثق بأنها عسكريا لن تنتهي تجربتها بفضيحة مماثلة للسابقتين؟
هذا السؤال أكثر من مشروع قياسا بتاريخنا المعاصر وصدماته.
إنه سؤال الإحباط العميق من مسيرة تخلّف بنيوية لا نرى أي مبرر حتى الآن لكي نتوقّع أنها ستقدّم نموذجا مختلفا عن سابقتيها تلك، بل عن سوابقها 1948,1967،1990,2003. وإذا كان ما أقول في الأسطر السابقة مخطِئاً فهذا يعني أن الفرس، غير العرب، سيقدمون في القرن الحادي والعشرين نموذجا مختلفاً من الإدارة السياسية لصراع مع الغرب، ومن حروب أفلس العرب في تقديمها؟
دعك من مبالغات حرب 2006 في لبنان وكِلَفِها المدنية والعمرانية الهائلة ومن مبالغات حرب تشرين 1973 الأكبر وانتصاراتها وتضحياتها الضخمة في قنال السويس ونسبيا في الجولان... كل هذه التجارب لم تُقدِّم نماذجَ توحي بالثقة الكافية بالمستقبل العسكري والسياسي للعرب والإيرانيين، دعْكَ من الأتراك الذين قاموا في الحرب العالمية الأولى، أي قبل مائة عام ونيِّف، بآخر انتصاراتهم العسكرية الكبرى في غاليبولي على مدخل مضيق الدردنيل وكبّدوا الأسطول الإنكليزي خسائر بشرية وعسكرية كادت تودي يومها بالمستقبل السياسي لـ"وزير الحرب" ونستون تشرشل نفسه الذي سيتحول بعد عشرين عاما ونيف كرئيس للوزراء إلى بطل حقيقي في الحرب العالمية الثانية. لكن الأتراك، مع الأسف، خسروا الحرب العالمية الأولى بكاملها ولو كانوا ربحوا أحد أكبر معاركها. كانت تلك معاً آخر هزائمهم الشاملة (سقوط إسطنبول استسلاماً) مثلما هي آخر انتصاراتهم الفرعية الدولية وإنما البطولية (غاليبولي).المقصود هنا الصراع مع الغرب وليس حربهم اللاحقة مع اليونانيين.
في تجربتَيْ "حزب الله" و "أنصار الله" (الحوثيون) حقق الإيرانيون بنظامهم الأصولي نجاحات أكيدة. لكن هذه نجاحات حرب العصابات لا حروب الجيوش. في حروب العصابات، المحدودة بالنتيجة، لا اختبار للتفوق الحضاري ومنه العسكري الشامل. الجزائريون حققوا ذلك في حرب العصابات ونالوا استقلالهم المشرِّف عن فرنسا لكن كما ظهر في نصف قرن، لم ينَالوا مستقبلهم المشرِّف حضاريا مثلهم في ذلك مثل كل شعوب المنطقة!
كيف نثق أن الإيرانيين، وهم مثلنا شعب مسلم متخلف حضاريا، سينهون هذه "الرواية" من دون فضيحة تظهرهم نمرا من ورق؟
أنا المعارض المنزعج من، والرافض مثل كثيرين ومنذ زمن طويل لكل أشكال السيطرة الإيرانية الثقافية السمجة بدءاً من قريتي في جنوب لبنان إلى بغداد إلى طهران أتمنى أن يقدِّم الإيرانيون نموذجا عسكريا جديا، ليس ضد قوى المنطقة وبعض شعوبها المسكينة مثلنا وإنما في مواجهتهم المفترَضة مع إسرائيل "ومن يقف وراء إسرائيل" كما كان الرئيس جمال عبد الناصر يقول، غفر الله له!
... أتمنّى أن لا يكون الإيرانيون نمرا جديدا من نمور ورق المنطقة.. ولكن كيف نثق والإيرانيون مثلنا شعوب هجرة وفرار من القمع الذي تمارسه الأنظمة وفي مقدمها نظامُهم، شعوب هجرة وهرب من الضيق والاختناق الفكريّيْن بحثا عن التفتّح الحضاري في الغرب. (آخر الأخبار الطازجة إجراءات في جامعة طهران غير مسبوقة لفرض معايير صارمة في ارتداء الحجاب اعترض عليها الطلاب والطالبات. السؤال البديهي هنا هو: هل هذا وقتها في ظل صراع إيراني أميركي مفترَض أنه توحيدي للشعب الإيراني. إجراءات حول ارتداء الحجاب ضد من؟ ضد النخبة الشابة؟)
قرأت مؤخرا عددا من الفصول التي تهمني في كتاب وليم بيرنز الجديد الذي صدر في نيسان الشهر الماضي وكنتُ اشتريته في باريس عبر أمازون وعنوانه: "القناة الخلفية". (The BACK CHANNEL- American Diplomacy In A Disordered World).
وليم ج. بيرنز كان كبير المفاوضين الأميركيين في المحادثات السرية مع الإيرانيين في عُمان بين عامي 2013 و2014 التي سبقت الاتفاق النووي الأميركي والبادئة في الواقع في خريف 2009 في عواصم مختلفة "على هامش" محادثات 5+1.
حاولتُ في قراءتي للكتاب أن أعثر على بعض "حسابات" أو اعتبارات البيت الأبيض غير المعلنة في إنجاز الإتفاق في الفصل التاسع المخصص للمحادثات السرية ولكني وجدتُ بعض الإجابة عن ذلك في الفصل الثامن المخصّص لـ"الربيع العربي" الذي أصبح "شتاء" كما يحب بيرنز أن يقول. فبينما في الفصل التاسع يشدد على الضعف الاقتصادي البنيوي لإيران وتكوينه الريعي وقلة أصدقائها في المنطقة، وهذا طبيعي في أي حساب تفاوضي، فهو في الفصل الثامن يكشف مدى عدم ثقة واشنطن بقدرات العرب وهزال إمكاناتهم التنموية وعجزهم في التربية والتحديث. حتى ليمكن تأويل "فلسفة" الاتفاق النووي من وجهة نظر فريق الرئيس أوباما بأنه في جانب أساسي منه عدم رهان على العرب مقابل القبول الإيراني بالتخلي الحاسم عن مشروع القنبلة النووية.
طبعا لا تحفل مذكرات بيرنز بالكثير من الأسرار العميقة في الفصلين المذكورين وإن كانت تمتلئ بالوقائع الجذابة، لذلك ستظل جوانب في النظرة الأميركية لمستقبل إيران غير واضحة ومنها مثلا مدى رهان واشنطن على تغيير النظام الإيراني سلميا ما بعد الاتفاق النووي أو في ما إذا كانت حصلت خلال المفاوضات السرية "أسرار دولة" تتعلق بالعلاقات الأميركية الإيرانية في مناطق النفوذ المختلَف عليها وإن كان لفت نظري في الفصل التاسع استخدام بيرنز لتعبير "التركيز" (focus) على الملف النووي بما يسمح بالسؤال ما إذا كان ذلك فتح المجال لمواضيع أخرى مع أن الكاتب الديبلوماسي لا يترك فرصة لا يكرر فيها التزام واشنطن بحماية حلفائها الخليجيين. وقد سبق لي أن سمعت من بيرنز عندما جَمَعَتْهُ مؤسسةُ كارنيجي مع عدد من الصحافيين عندما جاء قبل أشهر بصفته الحالية كرئيس لمؤسسة كارنيجي لحضور مؤتمرها السنوي في بيروت. يومها ردا على سؤالي له هل تطرقت المفاوضات النووية في عُمان إلى مسائل أخرى كالوضع في الشرق الأوسط أجاب أن ذلك كان يحصل بشكل هامشي ومحدود؟ وهو ما يحرص على قوله في مذكراته لاحقا. لذلك لم يخرج الكتاب عن البروباغندا الرئيسية لفريق أوباما وهو أن الاتفاق لم يتجاوز الموضوع النووي. وهذا أيضا هو الادعاء الإيراني في واحدة نادرة من توافقات البروباغندا الأميركية مع البروباغندا الإيرانية! (ستكون لي عودة إلى بعض فصول هذا الكتاب ومنها الفصل الجذاب عن مرحلة سفارته في الأردن في فترة الانتقال من عهد الملك حسين إلى عهد ولي عهده الملك عبدالله).
في النهاية يبقى السؤال الكبير هل تكون إيران نمرا عسكريا من ورق كسابقيها العرب أم لا؟ | |
|