| | Date: May 16, 2019 | Source: جريدة النهار اللبنانية | | الفساد... في مكافحة الفساد - أنطوان مسرّە | الشفافية والمحاسبة والمراقبة ومكافحة الفساد هي من المصطلحات الأكثر رواجًا في السياسة الشعبوية وفي برامج المدافعة عن القانون ودولة الحق. لكن الكثير من المصطلحات تفقد معناها بسبب الاسهال الكلامي وإطلاق الشعارات والاستغلال الاداتي للقانون في سبيل الانتقام من منافس سياسي او مهني. وهكذا يتم تعميم الضبابية في الحياة العامة ونشر ايديولوجيات في الإصلاح بدلاً من العمل الاصلاحي.
ينبع الفساد من استغلال نفوذ وإرساء شبكات نفوذ. تندرج بعض الاشكال الشعبوية في مكافحة الفساد في ضرب سياسيين بعضهم ببعض والتشهير بسياسيين وفتح ملفات انتقامًا من منافس وليس حرصًا على المال العام. وقد يندرج الانكباب على وضع تشريعات وانشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد في ايهام الناس بالتغيير.
¶¶¶
تتطلب ثقافة مكافحة الفساد، لا التشهير ولا فتح الملفات، بل التركيز على انعكاسات الفساد على المستهلكين والمستفيدين من خدمات عامة وعلى المواطنين في حياتهم اليومية. من يريد نشر ثقافة الشفافية والمساءلة يبيّن مفاعيل مناقصة شراء ادوية فاسدة على المستهلكين والمستفيدين وعلى حياة المواطنين اليومية. وخلف ستار مكافحة الفساد يتم زج القضاء بالذات في علاقات نفوذ وتواطئ مع الذين يبتغون الانتقام من منافس.
حالة كارلوس غصن معبّره في هذا السياق. هل يكون القضاء قضائيًا ام متواطئًا مع منافسين يفتحون ملفات لإرواء حقد وانتقام؟ يتوجب طبعًا من وسائل الاعلام وفي كل الحالات التقيد بمبدأ قرينة البراءة. لكن قضية كارلوس غصن تطرح مسألة فتح الملفات في إطار علاقات نفوذ ومصالح. يُخشى ان يكون مواطنون وملتزمون بالديموقراطية ضحية خدعة ومتواطئين في علاقات نفوذ.
تمارس أنظمة استبدادية سياسة فتح الملفات تجاه معارضين سبق ان وضعتهم هذه الأنظمة بالذات في مواقع مُتميزة لاستفادتهم الشخصية وشرط ولائهم المطلق لهذه الأنظمة. تُسجل يوميًا مخالفاتهم وانتهاكاتهم وسرقاتهم تحسبًا لفتح ملفاتهم إذا خرجوا عن الخضوع على أساس قاعدة: ارتكب لتخضع! من يفتح الملف ويتبارى في الحرص على المال العام ودولة الحق والشفافية والمحاسبة يهدف الى إرواء حقد ومحاسبة مُتعاون خرج عن الخضوع. من الضروري طبعًا ان يدرك كل شخص يُمارس وظيفة انه خاضع للمراقبة وان يتحسب لأي انحراف. نقل لي فؤاد بطرس قول أحد كبار المسؤولين السوريين له: "انت مثل البلور!" تجاه تساؤل فؤاد بطرس عن معنى هذا التشبيه، كان الجواب: "لم نكتشف في مسارك خطأ واحدًا" لماذا هذا الاكتشاف؟ في سبيل الاتهام والاخضاع والابتزاز. يمكن الانتقام والاخضاع والابتزاز وازاحة منافس بفتح ملف أي موظف مثالي من خلال تسجيل يومي لأي تفاهة إجرائية وعلى طريقة La Fontaine في "الطاعون" La peste حيث يُتهم الحمار لأنه أكل عشبًا من الحقل. كبار "المتهمين" في التاريخ، وبخاصة يسوع، حكم عليهم لحجج يسوقها اهل السلطة ومنافسون، أي اشخاص سيّئو النية.
هنا لب معضلة العدالة. ليست العدالة انتقامًا. حسن النيّة إطار حقوقي واساس في ممارسة اي حق. من الخطورة الانسياق في اعتبار الذين يفتحون الملفات انهم مدافعون عن المصلحة العامة. يفقد في هذه الحالة القضاء صفته القضائية ويتحول الى أداة متواطئة مع حاقدين فاسدين في اعلى القمة للانتقام وليس لإحقاق الحق. العدالة المعصومة العينين تكون في هذه الحالة متواطئة ومشجّعة لعالم حيث يتحول القانون الى أداة ويفتقر الى صفته المعيارية.
ما يحصل من تشهير تجاه اشخاص ومؤسسات يناقض ثقافة مكافحة الفساد وترسيخ الثقة بالمؤسسات. كيف تريد من مواطن مُكلف بالضريبة ان يسارع في تأدية واجباته وعدم السعي للهروب من الضريبة تجاه إدارة عامة تنشر غسيلها الوسخ وتطلب من المكلفين تأدية واجباتهم؟ يُنقل عن الرئيس فؤاد شهاب انه بعد اكتشاف عملية نهب مع مشاركة موظف عالي الدرجة في الجمارك طالب بالملاحقة ولكن بدون التشهير بالمؤسسة حرصًا على مكانة مؤسسة الجمارك وثقة المواطنين. ليس بالضرورة الثقة بالأشخاص بل بالمؤسسة التي لا تختزل بموظف مهما كان شأنه ومهما كانت خطورة ممارسته.
وهل تتوفر القاعدة الأساسية لمكافحة الفساد وهي مبدأ الفصل بين السلطات في التطبيق؟ اذا كانت الحكومات برلمانًا مصغرًا فلا فصل بين السلطات وبالتالي لا مراقبة برلمانية ولا محاسبة ولا معارضة خارج الحكم ويستحيل اتخاذ قرار في مجموعة غير متضامنة الا من خلال تبادل منافع.
الملفات المقفلة؟ الملفات المفتوحة في علاقات نفوذ وحقد وانتقام؟ ليس هذا قانون وعدالة وشفافية ومحاسبة ومكافحة فساد وحوكمة رشيدة.
¶¶¶
الفساد ملازم بدرجات متفاوتة للحياة السياسية التي هي في آن صراع على النفوذ والمصالح والموارد، وهي ايضًا إدارة للشأن العام. لا يعني التلازم تبريرًا، بل مجرد ترابط متفاوت الدرجات والمواقع والخطورة والانتشار. التوفيق بين السياسة كنفوذ وصراع على المصالح والموارد وتعبئة نزاعية وتنافس، والسياسة كإدارة للشأن العام res publica، هو ثمرة عمل ديموقراطي نضالي يومي. ليست الديموقراطية "نظامًا" سياسيًا، حيث ان كل نظام بدون استثناء يحتوي على بذور فساده وافساده، بل منهجية وآليات في المشاركة والمراقبة والمحاسبة واليقظة المواطنية الدائمة لترشيد السياسة واصلاحها وانسنتها.
ان مخالفة عامل في مصلحة المياه لنظام تقنين المياه في قرية لبنانية لقاء رشوة، هي جزء من نظام متكامل في المجتمع الكلي. عامل المياه هذا هو محسوب على زعيم نافذ في رئاسة البلدية، المحسوبة على زعيم، الذي هو محسوب على أصحاب الحل والربط في السلطة المركزية. يرتبط الفساد السياسي والإداري بأربعة عوامل:
1- آلية السلطة السياسية وكيفية الوصول اليها والخروج منها.
2- مدى الحماية التي يتمتع بها المواطن تجاه السلطة السياسية والإدارة العامة في إطار دولة الحق.
3- منظومة القيم في المجتمع نتيجة تراكمات تاريخية وثقافية.
4- مشاكل الإدارة ذاتها، وما تنتجه من تلكؤ او استرخاء.
يتطلب العمل في سبيل مكافحة الفساد لا مجرد الكلام ولا البحث في انتشاره وسرد توصيات، بل تمكين empowerment المؤسسات والافراد وتنظيمات المجتمع لمقاومته. تكمن الطريقة الفضلى في اتخاذ تدابير إجرائية ملموسة ورصد مبادرات واعمال ميدانية إيجابية ومعيارية وتطبيقية تشكل نماذج وتثير التماثل والاقتداء.
ما هي الحصيلة الشعاراتية في مكافحة الفساد والتشهير وضرب سياسيين بعضهم ببعض وتصريحات لا تترافق مع إجراءات يومية عملية ملموسة؟ الحصيلة الفاسدة: فقدان الثقة بالمؤسسات خلف ستار الحوكمة الرشيدة ودولة المؤسسات.
عضو المجلس الدستوري | |
|