| | Date: May 6, 2019 | Source: جريدة الشرق الأوسط | | اللاءات الثلاث وطبول الحرب المؤجلة - سام منسى | بالتزامن مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لانسحابها من الاتفاق النووي، وبعد إدراج الحرس الثوري الإيراني على لائحة الإرهاب، صعّدت الولايات المتحدة عقوباتها ضد طهران مع إعلان إنهاء الإعفاءات من حظر شراء النفط الإيراني الممنوحة سابقاً لبعض الدول.
جاءت هذه الخطوة لتفاقم أجواء التوتر بين الطرفين بما لا يبشر بالخير حول مستقبل المنطقة، إلا أن بعض الخبراء والمراقبين يعتقدون أن تصعيد الضغوط قد يمهد لتفاهمات بين طهران وواشنطن تُدرَس في الكواليس. وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، لا بدَّ لنا من التذكير بأن الضغوط الأميركية الجدية والمتصاعدة على إيران لا تهدف إلى تغيير النظام فيها بقدر ما تهدف إلى تغيير سلوكه، خصوصاً لجهة طموحاته التوسعية في المنطقة وتدخلاته في شؤون دولها وما جرّته من زعزعة للاستقرار.
وعلى الرغم من أن هذه النقطة بالذات هي موضوع رصد وحتى جدل داخل الإدارة الأميركية، فإن وقائع عدة تعززها أهمها مبدأ الرئيس الأميركي «أميركا أولاً» الذي يحدّ من الانخراط في حروب خارجية، إضافة إلى أسلوبه في التعامل مع الأزمات بحيث يستخدم أقصى الضغوط المتاحة للتوصل إلى أقصى تنازلات من الخصم العدو والصديق على حد سواء. هكذا تعامل مع الصين وكوريا الشمالية و«طالبان» وحتى الاتحاد الأوروبي وكندا، ونجح حتى الآن في الحصول على مبتغاه أو أقله بعض من مبتغاه.
إزاء هذا الواقع، تلوح لاءات ثلاث هي الأكثر رجحاناً في تصور ما قد تشهده المنطقة على المديين القصير والمتوسط.
اللاء الأولى هي: لا حرب عسكرية أميركية إيرانية متوقعة. فالإدارة الأميركية استبدلت بها حرباً اقتصادية عنوانها العقوبات، وهي تأتي بثمارها بحيث يبدو أن الجميع خضع لها. من جهة أخرى، تدرك إيران أن حرباً مباشرة ضدها تشكل راهناً خطراً وجودياً على نظامها، ولذلك نشهد في هذه المرحلة الحرجة أداءً حذراً ومدروساً من المرشد الأعلى علي خامنئي. في اجتماع مع قادة عسكريين في 18 أبريل (نيسان) الفائت، قال خامنئي: «كل ما يزعج العدو هو جيد، وكل ما يجعل العدو يقاتل هو جنون وأمر سيئ وغير مقبول». إن الهدف الأول للمرشد في هذه المرحلة هو انتقال سلس للسلطة، من بعده يؤمّن استمرارية نظام الملالي، وهو يدرك أن اندلاع حرب مباشرة مع أميركا لا سيما على الأرض الإيرانية يضرب هدفه هذا في الصميم.
اللاء الثانية هي: لا حرب إسرائيلية إيرانية تدور رحاها على الساحتين اللبنانية والسورية. فعلى الرغم من أن عملية تبادل الرفات والأسرى بين سوريا وإسرائيل لا تتخطى حملة علاقات عامة تقودها موسكو وتل أبيب معاً، فإنها تبقى مؤشراً لتفاهم روسي إسرائيلي حول عدد من الخطوط الحمر يتصدرها عدم شن إسرائيل حرباً ضد إيران وحلفائها في المنطقة. فبعد عودتها إلى الشرق الأوسط، لن تسمح روسيا لإسرائيل بتقويض أكبر نجاح سياسي وعسكري ودبلوماسي لها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.
من جهته، يسعى بنيامين نتنياهو لتأكيد صحة سياساته في مواجهة الخطر الإيراني عبر شن ضربات منفردة ومركزة ضد مواقع إيران وميليشياتها في سوريا. يضاف إلى ذلك توصله مع الروس إلى توافق حول إبعاد إيران ولو نظرياً عن الحدود الإسرائيلية. اللاء الأولى تعزز اللاء الثانية، دون تجاهل خطر الانزلاق إلى مواجهة أوسع تطال الأراضي اللبنانية نتيجة لتداعيات غير مقصودة للضربات الإسرائيلية.
أما اللاء الثالثة، فهي: عدم قدرة ورغبة النظام الإيراني في إجراء تغييرات تلبّي مطالب أميركا الـ12 التي أعلنها وزير خارجيتها، وذلك لأن خامنئي لا يميز بين النظام وسلوك النظام. فالمرشد يؤمن بأن سلوك إيران الحالي من سعيها إلى امتلاك قدرات نووية وتعزيز برنامج الصواريخ الباليستية إلى تقوية حلفائها في عدد من دول الإقليم ومنع التأثير الثقافي الغربي من التسلل إلى البلاد، يشكّل درع الحماية الأنجع للنظام. وعلى الرغم من الحصار الاقتصادي الذي تتعرض له إيران وتداعياته الوخيمة على الداخل، من غير المرجح أن يشكّل ذلك محركاً لاندلاع ثورة خضراء جديدة تمارس ضغطاً داخلياً على النظام.
كل ذلك يطرح سؤالاً رئيساً: ما الضغوط القادرة على تغيير سلوك إيران أو تلك التي تدفع نظامها للعودة إلى طاولة المفاوضات ومناقشة قضايا على غرار برنامج الصواريخ والبرنامج النووي والتدخلات الخارجية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال مستعصية، أقله في المديين القريب والمتوسط. فالنظام الإيراني يخوض حالياً معركة وجودية تتوقف على نتائجها حياة كل ما أفرزته الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 من نظام حكم يقوم على عقيدة ولاية الفقيه، إلى نمط عيش وتفكير معادٍ للغرب، ونفوذ خارجي داعب الحنين إلى إحياء الإمبراطورية الفارسية، وصولاً إلى مصادرة القضية الفلسطينية وأسلمتها وتجريدها من بُعدها القومي العربي والتسلل إلى المجتمعات الداخلية في أكثر من دولة عربية، وإحداث انشقاقات طائفية ومذهبية ومجتمعية فيها أدت إلى خلق أزمة هوية وانتماء. الناظر إلى ما أنجزه نظام الملالي بنفَس طويل منذ تسلمه مقاليد الحكم في إيران، يدرك صعوبة أن يتخلى عما حققه كما حجم المقاومة التي سيبديها لحماية نفسه والحؤول دون تحقيق ما يصفه المرشد الأعلى بـ«أجندة الولايات المتحدة المخفية»: تحويل إيران إلى دولة على غرار الديمقراطيات الغربية وخلع الثوب الديني عنها.
مَن يتوقع أن تغيّر إيران سلوكها مهما بلغ حجم الضغوط عليها سيصاب دون شك بخيبة أمل. فالنظام الإيراني قد يعدل بعضاً من ممارساته وينأى بنفسه عن خوض مغامرات انتحارية، لكن دون المساس بالأساسيات، لأن ذلك يعني القضاء الحتمي عليه.
في المقابل، إذا كانت إيران تراهن على أن رئيساً أميركياً جديداً جمهورياً أقل تشدداً أو ديمقراطياً قد يتراجع عن الانسحاب من الاتفاق النووي، أو يوقف العقوبات ضدها في حال لم تتراجع عن سلوكها، فهي أيضاً مخطئة. لا عودة إلى زمن أوباما، إنما يبقى هدف أميركا تحويل إيران من ثورة إلى دولة، والأرجح عبر الضغوط السياسية والاقتصادية.
إن توقُّع حسم قريب وتطورات دراماتيكية يبدو مستبعداً، إلا أن اللاءات الثلاث تبقى احتمالات ما يقتضي سياسة عربية جدية وجديدة تحصّن الموقف العربي سواء جراء تفاهمات مع إيران أو الانزلاق إلى مزيد من النزاعات أو حرب إقليمية واسعة. | |
|