Date: May 7, 2011
Source: nowlebanon.com
تركيّا المصريّة - نصير الاسعد

إنّ متابعةً جادةً لمسار التحوّلات الجارية في المنطقة وما أفرزته حتّى الآن، تسمحُ بإستنتاج رئيسيّ هو أنّه في موازاة الثورات العربيّة الداخليّة ثمّة تعزّز للدور والموقع التركيين إقليمياً، بينما لا يخطئ النظر في أنّ الدور الإيرانيّ إلى تراجع.

إلتقطت القيادة التركيّة بزعامة "حزب العدالة والتنمية" الحاكم بسرعة كبيرة إشارة الإنتفاضات الشعبيّة "المندلعة" وقرّرت التعامل الإيجابي معها، بل أكثر من ذلك هي وجدت مصلحة لها فيها. وبإستثناء لحظة تردّد (إرتباك؟) عبّرت عنها حيال الدخول العسكري الدوليّ على خطّ الأزمة في ليبيا قبل أن "تستدرك" فتدعم إسقاط معمّر القذافي، فإنّ تركيّا دعمت بقوّة (سياسياً) ثورة 25 يناير في مصر، وطالبت النظام في سوريّا بإصلاحات تتضمّن "إجراءات مؤلمة" له قبلَ أن تصعّد في وجهه في الأيّام الماضية إذ تأكّدت أنّه "مقفل" على أيّ تغيير وغير قادر على الإنتقال إلى وضعيّة مختلفة.

 

بطبيعة الحال، لا تفعل تركيّا ذلك "حسنةّ لوجه الله"، لأنّها كما أيّ دولة في العالم تحسبُ حسابات مصالحها العامّة. لكنّ الأهّم من الدخول – الآن – في نقاش تلك الحسابات، هو تسجيل حقيقة أنّ تركيّا تتحرّك من منطلق أنّ الوضع العربيّ "القديم" – ما قبل إندلاع الثورات – لا يؤاتيها. فالفراغ العربيّ الذي كان سائداً لا يمكنُ القفز فوقه وهو لا يُملأ إلاّ عربياً وليس من خارجه، كما أنّ أيّ قوّة إقليميّة مهما كانت قوتها أو مهما كان عتوّها لا تستطيع أن تحلّ محلّ نظام عربيّ فاعل وديناميكيّ في إطار نظام إقليميّ عام. أي إنّ تركيّا وجدت أنّ مصلحتها الحقيقيّة هي في الشراكة مع نظام عربيّ جديد. ولا شكّ هنا أنّ "الإستراتيجيّة التركيّة" نقيض لـ"الإستراتيجيّة الإيرانيّة" التي نهضت على التمدّد في الدواخل العربيّة وعلى اللعب بالشؤون الداخليّة للدول العربيّة وعلى إسقاط الهويّة العربيّة وعلى مصادرة قضايا العرب بسياسة تحرّكها "النزعة القوميّة الفارسيّة" مغطاة بأيديولوجيا إسلاميّة "فريدة".. فكان أن حصدت إيران عداوات كبرى وعلى مستوى الشعوب، هي الآن تدفع أثمانها.

إنّ "تركيّا الأردوغانيّة" قدّمت نموذجاً مختلفاً لـ"الإسلام السياسيّ"، هو حصيلة مخاض إستمرّ عقوداً لـ"الإسلام السياسيّ التركيّ" في تركيّا العلمانيّة. فقد حقق "الإسلام السياسيّ التركيّ" ثلاث مصالحات كانت لازمة من أجل أن يدخل الحلبة السياسيّة وصولاً إلى الحكم: المصالحة مع الديموقراطيّة بما هي الإحتكام إلى الشعب وقبول مبدأ تداول السلطة، والمصالحة مع "الدولة المدنيّة" والإنتهاء من فكرة "الدولة الدينيّة" والمصالحة مع الغرب وأميركا والتنسيق معهما إذ ليس من "شيطان أكبر" و "شياطين أصغر".. وصولاً إلى عدم تمزيق عضويّة تركيّا في الـ"نيتو" وإلى المواظبة على دقّ أبواب "الإندماج" في أوروبا.

لا شكّ أنّه كان لهذا النموذج تأثيراتُه على "الإسلام السياسي" في المنطقة العربيّة. ولمزيد من التوضيح فإنّ "الإسلام السياسي" هوَ شيئ آخر غير ما يسمّى "الإسلام السلفيّ الجهاديّ".

 

وإذا كانت تجربةُ جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر تحتاجُ إلى قراءة مُحدّثة – أي حديثة – لكلّ ممرّاتها ومنعرجاتها فإنّ "الأثر التركي" إذا جاز التعبير في إخوان مصر ظهرَ على قدر عالٍ من الوضوح في الآونة الأخيرة. وذلك ليس لأنّ الإخوان المصريين قرّروا إنشاء حزب تشبهُ تسميتُه إسم الحزب التركي (تسمية "حزب الحريّة والعدالة")، بل لأنهم أعلنوا الإلتزام بالديموقراطيّة ورفعوا عنوان الدولة المدنيّة مشدّدين في عزّ ثورة 25 يناير على رفض "المثال الإيراني".

بطبيعة الحال، إنّ التجربة الجديدة التي سيدخل فيها "الإخوان المسلمون" في مصر ستكون موضع متابعة كي يستوثق المتابعون من مدى رسوخ إستراتيجيّة العناوين المرفوعة، لا سيّما في ظلّ تعابير مصريّة عدّة تظهر إلى العلن عن مخاوف ممّا يُسمّى صفقة بين "الإخوان" والجيش تارةً ومن نوايا تحجيم للفئة الأبرز في ثورة مصر أي المجتمع المدنيّ والشباب تارةً أخرى.

غير أنّ "الأثر التركيّ" لا يخفى على جماعة "الإخوان المسلمين" في سوريّا أيضاً، وقد قامت على مراحل، بعد المواجهة مع نظام الأسد في السبعينات من القرن الماضي، بمراجعة نقديّة لتجربتها السابقة وقد توصّلت إلى مفاهيم المصالحات الثلاث السالفة الذكر.

 

بكلام آخر، إنّ تركيّا في مواكبتها للثورات العربيّة أنهت بشكل قاطع رهانها على إمكان إصلاح النظام السوريّ من داخله أي على إمكان أن يصلح هذا النظام نفسه بنفسه. وهي تشجّع "الإسلام السياسيّ" على الإنخراط في عمليّة المشاركة في بناء مستقبل جديد للمنطقة العربيّة.

وعلى أيّ حال في هذا السياق، فإنّ التغيير الذي جرى في مصر والذي لم يكتمل فصولاً بعد من جهة، والتغيير الذي لا بدّ أن تشهده سوريّا على الرغم من المخاض العسير والدامي الذي يفرضه النظام السوريّ من جهة ثانيّة، إنّما يؤشّران – التغييران – إلى خارطة سياسيّة جديدة داخل البلدين على أنقاض ديكتاتوريّة الحزب الواحد والأمن.

والظاهر حتى الآن أنّ ثمّة "خليطاً" من مجتمع مدنيّ وشباب، وقوى ليبراليّة وديموقراطيّة جديدة أو متجدّدة (وتلاوين قوميّة ويساريّة) بالإضافة إلى "الإسلام السياسيّ".

هذا مع دور واضح منذ الآن للجيش في مصر كضمانة "خلفيّة" للمرحلة الجديدة، في حين لن يتضّح دور المؤسّسة العسكريّة السوريّة إلاّ في وقت لاحق من المخاض المتواصل.

 

بعدَ هذه الإستطرادات التوضيحيّة الضروريّة، فإنّ ما ينبغي التشديدُ عليه بالعودة إلى العنوان الأصليّ أي الدور الإقليميّ التركيّ، هو أنّ تركيّا تعزيزاً لدورها وموقعها، تقف الآن على تماس مع حركة التغيير العربيّة من أجل بناء علاقاتها المستقبليّة مع النظام العربيّ الجديد.

هي الآن تشجّع على التغيير وتدعمه بلا تدخّل مباشر وهي في الأصل لم تصدّره إلى الدواخل العربيّة لكنّها تأقلمت معه. وهي بالإستناد إلى مرحلة العقد السابق تُبدي توجهاً نحو التشارك مع العرب. وإذا كان من مقارنة مع إيران، يمكن القول إنّ المشروع الإيرانيّ إلغائي للعرب فيما المشروع التركيّ تعاونيّ تشاركيّ. وفي هذا الإطار، برز في الآونة الأخيرة توجّه تركيّ نحو مصر، نحو تمييز الدور المصري بل مساعدة مصر على إستعادة دور محوريّ، على الأرجح بإتجاه علاقة إستراتيجيّة تركيّة – مصريّة.

 

وإذا كانت المصالحة الفلسطينيّة في الأيّام الماضية حدثاً كبيراً بكلّ المعايير، فإنّ أحداً لا يستطيع تجاهل أنّ هذا الحدث حصل على عدة تقاطعات: الوضع الشعبي الفلسطيني الداخليّ، العلاقة الإخوانيّة المصريّة بـ"حماس"، العلاقة الإخوانيّة المصريّة بالمجلس العسكريّ المصريّ، العلاقة التركيّة بالإخوان، والعلاقة التركيّة – المصريّة. فها هي تركيّا مثلاً، وخلافاً لإيران التي أثرت في منع المصالحة الفلسطينيّة وحجزها، تشجّع على تلك المصالحة و"تهديها" للفلسطينيين.. ولمصر. وتركيا التي تنشط من ضمن هذه التوجّهات جميعاً – تنسق مع الولايات المتحدة وأوروبا.

الخلاصةُ من كلّ ما تقدّم هي أنّ دور تركيّا وموقعها ينتعشان في مناخ التحوّلات العربيّة في حين أنّ دور إيران وموقعها يتراجعان بقوّة.

المشهد الإقليميّ يدعو إلى التفاؤل من زاوية أنّ الأمور لا بدّ آيلة إلى نظام عربي جديد يشكّل قوّة إقليميّة يعتدّ بها ومتعاونة مع شركاء إقليميين أصدقاء. ويبقى ألاّ تركب إيران رأسها وأن تراجع إستراتيجيتها الإقليميّة لمصلحة علاقات عربيّة – إيرانيّة جديّة. فهل تريد؟ وهل تستطيع؟.