Date: Apr 17, 2019
Source: جريدة الحياة
هامشية المجتمع بين السلطوية والدين - عزمي عاشور
أصبح تعميم الاستثناء على حساب القاعدة وتهميش المركز لصالح الأطراف والتراجع بدلاً من تجددها، ظاهرة لافتة في ظل جمود العلاقة بين شعوب العالم العربي والأنظمة التي تحكمهم، ما صبغ مجتمعاتهم بالركود على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومن ثم أصبح التساؤل يتمحور حول سبب عقم هذه العلاقة والإصرار، من قِبل أنظمة الحكم، على مواصلة القمع والاضطهاد وغلق القنوات الشرعية التي يعبّر بها المجتمع عن مكنون طاقته بشكل يمكنه من جني الثمار بشكل طبيعي يتناسب مع الجهد المبذول بعيدا عن نفحات السلطة. وتعكس هذه العلاقة هامشية حركة المجتمع بتركزها في مجموعة أفراد؛ سواء الذين يرمزون إلى النظام السياسي أم الذين يخدمونه. وخطورة وجود هذه الظروف تكمن في تداعياتها التي تتخطى اللحظة التي توجد فيها إلى المستقبل، بحيث يتوازى معها في المقابل تفشي الفراغ المعنوي والمؤسسي في المجتمع، الأمر الذي يمهّد الطريق لملئه بأي وسيلة أخرى غير مشروعة ترتبط بسلوكيات هذا الفرد المغيَّب.

ومن هنا، فإن الوجود الشكلي للدولة يفرز تلقائياً سلطوية متوازية تتمثل في الدين الذي يمارس دوراً وإن كان مختلفاً في الشكل عن الدور الذي تمارسه الدولة الديكتاتورية، إلا أنه في تأثيره يتساوى إن لم يفق بتقييده للعقول والأفكار والحريات بعامة، وتكمن الخطورة في أنه عندما باتت عملية الإصلاح السياسي تطرق أبواب الكثير من الدول العربية برز الدين كمتغير سياسي مطروح في الإسهام في هذه العملية، كما في العراق على سبيل المثال والذي باتت تحكمه «صحوة دينية» بتجليات متصادمة.

يحدث هذا التفاعل في وقت كان يفترض أن يبقي الدين -أي دين - محور احترام الجميع حين يكون في إطاره الصحيح، فعندما يتوجه به إلى الآخرين يفترض أن يبقى في نطاق القيم الأخلاقية أما إذا تحول إلى عمل سياسي فيصبح عندئذ ذريعة لسلب حرية الإنسان وإرغامه على الامتثال كما يصبح وسيلة لقهر الآخرين وتبرير استغلالهم في الكثير من الأحيان. وهذه المعضلة يمكن اعتبارها من أبرز المشكلات التي تقف عائقاً أمام تطور وبناء المجتمعات العربية على أسس مدنية حديثة، سواء في حالة وجود أنظمة علمانية وديكتاتورية أم حتى في وجود جماعات تسعى إلى الحكم باسم الدين، ففي كلتا الحالتين الدين يوظف بازدواجية على حساب الحريات والتقدم ومواجهة العصر بعقل خال من القيود والحلول الجاهزة، فهو عند مستوى النظم السلطوية يستخدم في تبرير سلطويتهم خشية قفز الإسلاميين أو من على شاكلتهم إلى السلطة ومن ثم من المباح تأجيل الإصلاح حتى لو بشكل تدريجي، وهذا يشكل في حد ذاته أزمة حقيقية في كون أن حالة الاختناق التي تعيشها هذه المجتمعات هي التي خلقت وجوداً لهذه التيارات، ومن ثم لم يكن من الغريب أن يكون الحبل مشدوداً بين التيارين: السلطوي والديني لاتفاقهما في نهج الاستحواذ ونفي أو تهميش الآخر (المجتمع) بغية التمسك بالسلطة، إذ يكون التخفي وراء الشرعية تارة باسم المصلحة الوطنية وتارة أخرى باسم الدين وهو الأمر الأشد خطورة على المجتمعات التي تسعى للنهضة لكونهما يشكلان عائقاً يعمل على تكبيل المجتمع وعدم فتح الطريق لتحرره من هذه الأعباء ويرجع ذلك بخاصة لحساسية عامل الدين الذي يشكل نقطة ضعف داخل هذه المجتمعات، إذ إن نزعة التدين لدى كثيرين إذا كانت نابعة من الاعتقاد فإنها لدى آخرين أقرب إلى العادة، كما أن وجود هذه النزعة التي تبيح تحويل الدين ذاته إلى سلطة تتجاوز حق الإنسان في الاختيار الحر أو شكلاً من أشكال العصبية والتعصب لا تقل خطورة إن لم تزد عن سلطوية الدولة ما يجعل الجرأة على المخالفة غير موجودة خشية الاتهام بالزندقة والكفر في حالة الاعتراض أو الاقتراب بالنقد من هذه الشرعية، وهو أمر تتعدى خطورته اللحظات التي يحدث فيها إلى المستقبل، ما يضع المجتمع في مشكلات مستمرة تربك أي ديناميكية للتطور نظراً لوقوعه أسير هذه الازدواجية، فيجعل فئة صغيرة منه تستفيد من الوضع القائم باقترابها من السلطوية، وفئة أخرى تبدأ في البحث عن ذاتها حتى لو كان بأسلوب مخالف للواقع بأن تسير وتتبع نهج تيار التطرف. وفي ظل ذلك تبقى الفئة العظمى للمجتمع مهمشة بفعل حالة الاختناق التي أحدثتها هذه الازدواجية العقيمة ما بين السلطوية وكل ما هو راديكالي. الوضع كان سيختلف لو أن المجتمع بات حراً لا تقيده سلطوية أو أفكار راديكالية.

وبالمنظور نفسه تترجم هذه العلاقة ما بين التنظيمات الدينية ذات الطابع السياسي والمجتمع باختزالها للدين تحت شعار امتلاك الحقيقة وتقديم الحلول الجاهزة لكل المشكلات, وكل ماعدا ذلك فهو باطل بمنطق يناقض طبيعة التطور البشري نفسه الذي لعب فيه عقل الإنسان دوراً كبيراً في الحفاظ عليه من الاندثار بأن صنع له تاريخاً يستفيد منه ويبني عليه، فـ«تديين» عقل المجتمع بهذا النمط الأحادي التفكير يقتل مبدأ طالما كان عنصراً مهماً في النهضة الحديثة ويتمثل في «الحرية» التي كانت نتاجاً للتوازن الذي حدث في المجتمعات الغربية؛ باعتبارها تعبيراً عن حاجة ملحة من ناحية وعن توفر الوسائل لتلبيتها سلمياً من ناحية أخرى، أما في واقع المجتمعات الإسلامية فإن الأمر يختلف كثيراً عن ذلك، وهذا ما جعل التيار الأصولي في جانب منها رد فعل لفشل الأنظمة السياسية القائمة ولعجز القوى والأحزاب العلمانية في أن تكون بديلاً لهذه الأنظمة.

* كاتب مصري.