Date: May 5, 2011
Source: جريدة الحياة
الرومانسية الثورية وحدها لا تكفي - محمد جابر الأنصاري

تحيط غلالة كثيفة من الرومانسية بمطالبات التغيير الجارية في الوطن العربـي. وهي «حالة» مرت على «جيلنا»، الجيل الذي حلم بالوحدة والحرية والاشتراكية فلم يشهد غير الدكتاتورية – وربما كانت مخلصة! – التي لم تجلب إلا، وربما عن غير قصد أيضاً، الكثير من الهزائم وخيبات الأمل!
علينا التنبه، إن مجرد إحداث التغيير في الأشخاص، حتى على مستوى قمة الهرم وإعلان أيديولوجيات جديـدة – لا يجلب بالضرورة ما نصبو إليه من شـفافية ومثاليـة. وثمـة «آليات» اجتماعية وتاريخية تتطلب تفهماً لإحداث التغيير المنشود على المدى القريب والمدى البعيد.


الملاحظ أن الصحف المصرية، وفي مقدمها صحيفة «الأهرام»، شديدة المجاملة للحالة الثورية وشبابها، لكنها لم تستطع الامتناع عن نشر ما أوردته وكالة «رويترز» من القاهرة: «حين أطيح الرئيس المصري حسني مبارك من السلطة في شباط / فبراير الماضي، اعتقد ملايين من المصريين أن الفساد والركود ... سيزولان أيضاً، لكن بعد أكثر من شهرين ... غيّر البعض رأيه. وطالب متظاهرون منادون بالديموقراطية أحبطهم ارتفاع الأسعار وندرة الوظائف واستشراء الفساد بالتغيير، وحتى الآن لم يتغيّر سوى القليل في حياتهم اليومية ... مما قاد بعض المصريين للتساؤل إلى متى سينتظرون؟ ...»– «الأهرام»، (1/5/2011).
وفي اليوم التالي (2 أيار / مايو) قرأنا على الصفحة الأولى من «الأهرام»: أن الاحتفال بعيد العمال تحول إلى ساحة فوضى وتراشق بالكلمات بين الحضور، الذين هتف بعضهم ضد عصام شرف لأنه لم يحضر الاحتفال.


وطبيعي أن التغيير لا يحدث بين عشية وضحاها. ولا بد من العمل الجاد ومن العرق والدموع لإقامة بعض معالم البناء الجديد، وليس كافياً إطلاق الشعارات الحماسية في الساحات والميادين. وقبل أسابيع قليلة قرأت لكاتب متعمّق خاطب الشباب بقوله: انتقلوا من «الفيس – بوك» إلى الواقع!.
نعم لا بد من الانتقال إلى الواقع بمعنى فهمه ثم تغييره، ولا يكفي الوقوف عند استخدام الوسائل التقنية الجديدة التي أصبحت «تقليعة» المرحلة ...
إن انتشار هذه التقنيات – في حد ذاتها – يمكن أن يكون مضللاً، كما ضلّل انتشار الترانزيستور الملايين في مرحلة سابقة ... عندما «انتظرناهم من الشرق فجاءونا من الغرب» ... ولم تشفع لنا الترانزيستورات التي في أيدينا!


إن المطالبة بـ «الحرية» لا تكفي ... فأية «حرية» نريد ... وكيف يمكن لهذا المطلب العزيز في الوجدان الإنساني أن يتبلور في برامج محددة؟
ثم أن الديموقراطية التي هي الجسر إلى الحرية يتطلب أن تنضج وتكتمل اشتراطاتها ويتهيأ المجتمع، بعد تجاوز عصبياته المعيقة لها – لممارستها ممارسة سليمة.
يبقى من المهم، في سبيل السير نحو الديموقراطية، أن يتجاوز المجتمع عصبيات وعصبويات الريف والبادية التي علينا الإقرار بأنها ما زالت تتحكم بتكوين المجتمعات العربية. المجتمع المديني – المدني وحده هو القادر على إنتاج الديموقراطية. وهذا يتطلب المرور بمرحلة تنموية وتطويرية طويلة الأمد تذوب فيها «عصبويات» الريف والبادية وتنشأ المدن الجديدة التي هي حواضن مؤسسات المجتمع المدني، كما مرت به اليابان في مقدمة أمم الشرق ولم تجترحه أيام ثورة الميجي فحسب، بل طوّرت قبل ذلك بقرون حياتها المدنية الجديدة التي اقتضت نهضتها التعليمية والاقتصادية التجارية الممهدة للتطور السياسي.


ثم إن الديموقراطية لا يمكن أن تنمو إلا في رحم دولة قوية، غير مزعزعة الأركان. والتطاول على الدولة إجهاض للديموقراطية.
وغني عن البيان، أن المجتمعات العربية لم تتخلص، بعد، من عصبياتها الموروثة في الريف والبادية. ولم يتح للمدن العربية الجديدة، التي سرعان ما تريّفت، أن تلعب دوراً سياسياً جديداً ... في البلدين العربيين اللذين حدث فيهما التغيير لا نرى ملامح نظام جديد يتبلور. والأكثرية تخشى من «ثورة مضادة» ...
وطبيعي ألا يتبلور نظام جديد في فترة الشهرين أو الثلاثة ... ولكن أية ملامح ... وما هي التوقعات؟ إن الملاحظ في البلدين أن تكتلات دينية تصعد في الأفق ... والسلطة في النهاية مسألة قوة وأمر واقع، ولا تنحصر في «النوايا الطيبة»!
ويلاحظ أن القوة العسكرية، قوة الجيش، هي التي حسمت الأمر في البلدين العربيين. وهما في واقع الأمر بين القوة العسكرية التي لا ترتاح للتوجهات الأصولية وبين التكتلات الأصولية التي تحكم الشارع!


أما في البلدان العربية التي نسمع عن أحداثها ولم ينحسم فيها الأمر، فهي مهددة بالتقسيم أو بالحرب الأهلية لا سمح الله. ولكن هذا هو واقع الأمر. والعجب العجاب أن الغرب يبشر بالديموقراطية. وهو يدرك من تاريخه أن الديموقراطية لم تأتِ إلى مجتمعاته إلا بعد أن اكتملت شروطها. فهل هو «تطاهر» أمام العالم ليس إلا ...؟!
يوم الجمعة الماضي كتب باتريك سيل، الخبير البريطاني في شؤون الشرق الأوسط، مقالة في «الحياة» عن الانبعاث القومي العربي الجديد (29/4/2011). كان المقال مكتوباً بنية طيبة، لكنه كان مجموعة من «المواعظ». تمنى فيها الكاتب أن تأتلف الفئات المذهبية والدينية في العالم العربي لإقامة الديموقراطية والوحدة ... وهو يعلم تمام العلم من تاريخه الأوروبي، أن الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت، استمرت طويلاً قبل أن تتهيأ المجتمعات الأوروبية لمظاهر التقدم التي نأسى لغيابها في عالمنا العربي.
نحن لا نتمنى أن تشهد مجتمعاتنا حروباً كالتي شهدتها أوروبا. لكننا نأمل بمزيد من الصبر حتى تفعل التنمية الجادة فعلها ....


* كاتب من البحرين