Date: Jan 13, 2019
Source: جريدة الحياة
الأمم المتحدة حين تخذل ليبيا - محمد بدرالدين زايد
انتظرت أن تنقضي إجازات نهاية العام الماضي آملاً أن يعقبها موقف قوي للأمم المتحدة وبعثتها في ليبيا بشأن مسألة السفينة التركية التي تم ضبطها في أحد موانئ شرق ليبيا محملة بأسلحة وذخائر، ولكن المبعوث الأممي الدكتور غسان سلامة عاد بتصريحات في مكان آخر لا يقل إحباطاً وسنعود إليه، ما يعيد إلى الأذهان مرة أخرى تساؤلات حول التوجهات الحقيقية لهذه البعثة، ودورها منذ بدء الأزمة الليبية في تفاقمها وتعقيد الأمور بدلاً من تحسينها.

للأسف الموقف المحبط الذي نراه اليوم ليس جديداً، بل يعود بنا مرة أخرى إلى السياسات التي اتبعها المبعوث الدولي الأسبق برناردينو ليون، والذي تولي مهامه نهايات عام 2014، مدعوماً بشكل غربي واضح، وسعى نحو محاولة إنقاذ مشروع الإسلام السياسي في ليبيا بعد أن سقط في مصر، من خلال إعطاء فرصة جديدة لقيادات وميليشيات التطرف في ليبيا، وهو ما تحقق بعقد مؤتمر الصخيرات في ليبيا بوساطة المنظمة الدولية، ومحاولة فرض صيغة على مجلس النواب المنتخب، وصاحب الشرعية السياسية الوحيدة في البلاد، والذي كان قبل ذلك قد لجأ إلى مدينة طبرق في شرق البلاد هرباً من سيطرة ونفوذ الميليشيات والعصابات الظلامية في كثير من مناطق الغرب، وكان أساس المؤتمر فرض صيغة لتقاسم السلطة بين من فاز في الانتخابات وهذه التيارات المتطرفة، وكأنهم يعاقبون الشعب الليبي على رفضهم إعطاء أصواتهم لهؤلاء المتطرفين، وقد تجاوبت الدول العربية والمجتمع الدولي مع هذه الصيغة، رغم إدراك البعض لمدى تشوه هذا الطرح، وهذه الاتفاقية لإعطاء فرصة للاستقرار ومحاولة منع إراقة الدماء، وكنوع من البراغماتية السياسية للتعامل مع واقع انتشار هذه الميليشيات والأسلحة في البلاد، بصرف النظر عن من يتحمل المسؤولية عن هذه الأوضاع، واتباعاً لتقاليد دولية تميل إلى تأييد الجهود الأممية من حيث المبدأ، على الأقل من جانب أغلبية دول العالم.

وتم فرض هذه الصيغة وتشكيل المجلس الرئاسي الليبي كما هو معروف، والذي عمق الانقسام بدلاً من أن ينهيه، حيث أصبح في ليبيا أكثر من حكومة، واحدة منبثقة عن الشرعية السياسية الحقيقية وموقعها في شرق البلاد، وأخرى معترف بها دولياً أي حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، وقد تشكلت في البداية من اتئلافات متعددة، بعضها مقبول من مجلس النواب، ولكن تدريجياً بدأت العناصر ذات التوجهات المتشددة يزداد كفتها عدداً ووزناً، خصوصاً أن هذه العناصر هي مصدر الدعم الرئيسي الداخلي لهذه الحكومة، هذا فضلاً عن حكومة أخرى لا معنى لها وليس لها أي قبول دولي إلا باستثناءات غير معلنة وهدفها الرئيسي إعطاء انطباع بأنها البديل لحكومة الوفاق إذا فشلت وتمثل أقصى أشكال التطرف، ولم يعد أحد يسمع عنها ولست واثقاً شخصياً من أنها مازالت قائمة. وعموماً هذا ما حدث ورحل ليون بعد أن خلف وراءه واقعاً معقداً وصعباً في ليبيا، ليخلفه الألماني مارتن كوبلر، الذي فشل فشلاً ذريعاً، ولم يستطع أن يحقق أي اختراق .

شخصياً استبشرت خيراً عندما تم تعيين المثقف العربي الكبير والوزير اللبناني الأسبق الدكتور غسان سلامة مبعوثاً أممياً لليبيا، والرجل استهل بدايات عمله بالاعتراف بصعوبات الصخيرات، وضرورة التركيز على خيارات أخرى أهمها الانتخابات مع ترتيبات مناسبة قانونية وسياسية، ولكن جمود الموقف وتأرجحه بين إرضاء فرنسا وإيطاليا، وعدم التصدي لمخالفات وتجاوزات تركيا، وهي مسألة يفرضها الواجب على البعثة الأممية، جعلني أعود مرة أخرى إلى التشاؤم بشأن مصير وحيادية دور البعثة الأممية وقدرتها على إنجاز تسوية حقيقة في ليبيا.

هنا القول بأن اتخاذ موقف حيادي بين الجهات الداعمة للأطراف في ليبيا يتضمن خلطاً شديداً، ففي وقت يعاني فيه الجيش الوطني الليبي من الحاجة إلى معدات وتجهيزات معينة لمواجهة الإرهاب ولا يستطيع الوصول إليها، فإن من يدعم الميليشيات الإرهابية أو يسكت عن من يدعمونها، فهو شريك في هذه الجريمة بحق الشعب الليبي وبحق الدول الدول المجاورة لليبيا .

ويحضرني هنا الكتاب المهم الذي أعده الصديق العزيز طارق متري، الذي عمل مبعوثاً أممياً قبل ليون، ورغم أنني استوقفتني مسائل عدة لا أوافق فيها متري، إلا أنه يمكن لأي متابع وقارئ بين سطور الكتاب أن يلحظ أن الرجل كان يقاوم الضغوط الغربية في الساحة الليبية، وأنه غادر لأنه شعر بأنه لا يستطيع أن يشارك في فرض صيغة أو ترتيبات في ليبيا رغم إرادة الشعب الليبي وبما يخالف ضميره العربي، والتي كان برناردينو ليون بالطبع رجلها، خاصة أنه كان أحد المنظرين الغربيين الرئيسيين في الترويج لفكرة فرض فكرة الإسلام السياسي كخيار للاستقرار ولنقل السيطرة الغربية في العالم العربي. واليوم فإنه من المؤسف أنه ليس فقط لم تقم المنظمة الدولية بواجباتها تجاه التحقيقات وكشف الحقائق الخاصة بالسفينة التركية وسابقتها التي كشفتها السلطات اليونانية منذ شهور طويلة ولم يصدر بشأنها أي تقرير أو بيان من البعثة حتى الآن رغم تقدم أطراف ليبية ودولية للأمم المتحدة بطلب تقصي هذه الانتهاكات، وليس هذا فقط بل اليوم يطالعنا حديث يثير الكثير من التساؤلات حول المؤتمر الوطني الجامع وطريقة تشكيله التي قد تعقد الأمور ولن تساهم في تذليلها، كما بدأ سلامة التشكيك في إمكانية عقد الانتخابات وهذا موقف سليم ولكن العلاج يجب أن يكون سليماً كذلك، فليبيا تحتاج إلى آليات لفرض احترام نتائج هذه الانتخابات، يجب أن تبدأ بنزع سلاح الميليشيات وليس باعتبارها أطرافاً يحق لها المشاركة في حكم البلاد أو في تقرير مصير العملية السياسية والدستورية.

وهنا من المفيد العودة إلى كثير من سوابق المهام الأممية لاستعادة السلام والاستقرار في مناطق الصراعات، والتجارب الناجحة وغير الناجحة في هذا الصدد، والتي لا ينفصل فهمها عن آليات وظروف النظام الدولي في كل حالة على حدة، وما أخشاه في حال ليبيا أنها قد تصبح نموذجاً آخر بالغ السوء لإخفاق المنظمة الدولية على حساب جيل من الشعب الليبي، أمر يجب تداركه بشكل سريع أو البحث عن خيارات أخرى غير الدور الأممي لتسوية هذه الأزمة.

* كاتب مصري.