| | Date: Dec 18, 2018 | Source: جريدة النهار اللبنانية | | خروج عن الدستور أم عن الوطن ؟ - داود الصايغ | يوم انتخب السياسي الفرنسي إدغار فور رئيساً لمجلس النواب الفرنسي عام 1973 كان أول ما خطر بباله أن يقوله عندما جلس على المقعد الرئاسي العالي هو: "ما أجمل هذا المنظر لفرنسا!".
كانت فرنسا ممتدة أمامه كسهول الزمان، يطوف بنظره عليها وعلى ممثليها من أبناء المناطق الفرنسية، القادمين من عمق الأرض وعمق التاريخ، من تعاليم أجيال النور والتراث الحضاري. مجموعة نواب أطلقوا على برلمانهم إسم "الجمعية الوطنية" بدلاً من مجلس النواب، لأنه ليس هنالك أسمى من الوطن ما يجمع ومن يجمع.
ولم نكن نحن في لبنان دون تلك النظرة، عندما رأى المؤسسون أن مجلس النواب عندنا يتجاوز في مهماته صلاحيات التشريع ومراقبة العمل الحكومي، ليؤلف نوابه معاً هيئة وطنية دائمة للحوار، كان الرئيس شارل حلو يصفها بأنها إلتقاء ممثلي الأسر الروحية في لبنان. يجتمعون ليناقشوا ويتحاوروا، حيث الكلام هو السيد، كما قال فؤاد شهاب في خطاب قسمه في أيلول 1958.
فلبنان لم يكن يوماً بلد الغضب والإكراه والكره. أنه لم ينشأ بالدماء، ولم تكن الحروب مصدر ولادته. لم ينشأ بالتهديد والأيدي المرفوعة بالوعيد. كان هنالك كلام أُرسيت عليه الدعائم، فيما قادته الأقدار حتى زمن الكيان.
يومذاك تكلمت الأفواه من فضلات القلوب. لأنه لولا تلك القلوب، ولولا تلك الكلمات، هل كان حُفر في الضمائر ذلك النص غير المرئي الذي اسمه الميثاق الوطني. كِبرٌ على كَبر. لا مكان للصغار ولا للسفهاء الذين أوصى الحديث الشريف بمداراتهم.
إلى أين يريد المهدِدون أن يصلوا، ما دام انه ليس هنالك من لبنان غير الذي وُجدوا فيه. لبنان آخر؟ لم يقل لنا أحد بعد ما هو. وكم كانت دونما فائدة تلك الأوصاف بالقوة التي أطلقت على بعض الكتل النيابية الجديدة. وكم كانت بلا فائدة تلك الأوصاف التي أطلقت على الرئيس القوي.
إذ لم يقل لنا أحد بعد ماذا سيفعل بقوته، حتى تلك التي خرجت عن السياسة ودخلت في الصراعات المسلحة. لأنه، على أبواب لبنان، على حدوده وفي داخله، تتعطل كل أنواع القوة.
عطلوا تأليف الحكومة؟ نعم إنهم نجحوا في ذلك. من فرط الضعف. ولكن مجموعة ضعفاء لا تصنع وطناً قوياً. مجموعة كتل نيابية متباعدة، كل واحدة منطوية على ذاتها، أنتجها قانون إنتخابي من بين علّاته انه لم يُدرس في ملاءمته للبنان ولنظام حكمه. كأنه أعاد الإعتبار الى اإتفاق الدوحة الموقع في شهر آيار عام 2008 والذي كان من أضراره أنه شتت مركز السلطة ومسؤولية إتخاذ القرارات، علماً بأنه كان يومذاك حلاً إستثنائياً كما أعلن عنه.
فالقوة ليست عند من يأخذ بل عند من يعطي. وإن معظم مدعي القوة حتى الآن يكتفون بإحصاء عدد نوابهم، كي يأخذوا المزيد. وهذا هو تحديد الضعف في مقياس الوطنية. بما فيها ذلك الثلث المعطل المزعوم الذي ضرب الوفاق من أساسه في تفسير مغرضٍ وخاطىءٍ للمادة الدستورية، ذلك الوفاق الذي كان إتفاق الطائف رفعه إلى المرتبة الدستورية.
فالأوطان كلها سيجت نفسها. أقامت في الداخل مقاماً للقانون الأسمى الذي إسمه الدستور وانخرط الجميع تحته. يفصل العالم الحضاري عن العالم المتخلف ذلك الإحترام لما اتفقوا عليه، واسمه الكتاب. انظروا ماذا جاء في الكتاب. والكتاب واحد، أو هكذا يفترض أن يكون. إذ لم يعد هنالك ما يجمع بين اللبنانيين سوى هذا الكتاب الذي جاء في مطلعه المعدل عام 1991 أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه. وهو كلام في الأساس، يفوق بأهميته كل المواد الأخرى المتعلقة بالصلاحيات.
هذا الكلام، وهو غير مألوف في الدساتير الأخرى، وضع في أول أسطر المقدمة ليس لتصفية ذيول الحروب فحسب، بل لإنطلاقة المستقبل المتجددة. وهو يعني أن كل خروج عن هذا الثبات هو خروجٌ من الوطن وخروجٌ عليه.
من تجارب الحروب خرجت الدروس. إنه وطن لجميع أبنائه قال الدستور أيضاً. ويفترض بالتالي أن يكون مرجعية الجميع. وبما أن أبناء لبنان هم أبناء طوائف في البدء، فهذا يعني ان جميع أبناء الطوائف سلموا بأن لبنان هو وطنهم النهائي. وهذا يعني أن لبنان ليس للبعض أكثر مما هو لغيرهم، ويعني انه ليس هنالك وطن آخر غيره، لمن قرر أنه منه وله. فالجميع هم أبناؤه إلى أي دين او طائفة إنتموا. والمواطنية تحددت على هذا المستوى وبهذا الشكل.
هذا الدستور، بهذا الكلام، وجد لكي يكون بوصلة الضائعين والمغامرين، والذين عبثوا وتمادوا. إنهم دفعوا أثماناً بقدر ما جعلوا الأخرين يدفعون. لأن سطح الهيكل هو مظلة كل من هو تحتها. والحامي هو واحد.
أزمة تأليف الحكومة طالت حتى الآن سبعة أشهرٍ دونما عذرٍ مقبول. وحده العذر الآخير، قبل ساعة توقيع المراسيم، يدل على صاحبه. أنا هنا أو نحن هنا، لا فرق. الآن جاء دورنا قالوا. نعم. كأن مسيرة الأوطان هي تداول عرقلة لا تداول سلطة. معظمهم مارس القوة بمفاهيم السوق. أعطوني أنا القوي، ومن غير أن يدخل الوطن في الحساب. وإذا تعثر الأمر فالحق على النظام والحق على النصوص.
فما دخلُ نظام الحكم في حساب الوطن؟ فهل إذا تعدل الدستور تستقيم بوصلة الجميع. هل إذا جئنا بدستورٍ آخر معدّل تدار أنظار الجميع إلى الداخل والداخل وحده. هل إذا ألغينا الطائفية - الآن - تتنقى أجواء لبنان ليس من سموم البيئة فحسب بل من سموم الفساد والمصالح؟
مجموعة مسؤولين وسياسيين خرجوا عن تراث السابقين وأصحاب المهارة في تأجيل الأزمات لا في إفتعالها. لأن قوة من حكم لبنان في سني عزه كانت، بالإضافة إلى القدرة على إبتكار الحلول، كامنةً في الترفع. فهل سمع اللبنانييون من أصحاب الإدعاء بالقوة كلاماً من نوع: أنا لا أريد شيئاً لنفسي، تعالوا وخذوا ما عندي لأنه بالنتيجة هو لكم. هو للبنان. لم نسمع هذا القول من مدعي القوة لأن من يقوله ويفعله يصبح هو الأقوى. تاريخ الأوطان دلّ على ذلك. | |
|