| | Date: Dec 15, 2018 | Source: جريدة النهار اللبنانية | | اغتراب وجهل أو مخادعة: من يطبّق الدستور... اللبناني؟ - أنطوان مسرّه | من يفهم الدستور اللبناني العريق في تاريخيته والمعرّض لخروقات وتفسيرات وتأويلات وسجالات وانحرافات ومناورات، منذ 1920 وبعد وثيقة الوفاق الوطني-الطائف وبخاصة بعد التعديلات الدستورية سنة 1990؟
علماء الدستور في لبنان مُخضرمون في فهم البنود الدستورية العامة والمشتركة في العديد من الدساتير حول الأنظمة الدستورية الرئاسية والبرلمانية والفدرالية والوحدوية وحول الأصول المتعلقة بفصل السلطات والإجراءات الدستورية العامة.
لكن المعضلة، وبالتالي التشتت والتلاعب والاغتراب الثقافي، تكمن في عدم إدراك الخصوصية الدستورية اللبنانية في المواد التي اعتاد لبنانيون رميها في سلة مهملات "الطائفية". انها المواد الست: 9، 10، 19، 49، 65، 90. تندرج هذه المواد في العلم الدستوري المقارن في نظرية الإدارة الديموقراطية للتعددية الدينية والثقافية. لم يتابع باحثون تطور الدراسات الدستورية المقارنة منذ سبعينيات القرن الماضي. بعض الذين تابعوا هذه الدراسات في أوائل نشوئها توقفوا عن المتابعة طيلة نصف قرن! المواد الست المذكورة أعلاه تُصنّف النظام الدستوري اللبناني كنظام برلماني، مع كل مواصفات الأنظمة البرلمانية المعروفة، وتتميز بدمجها سياقات تنافسية وتعاونية في آن، بما يحمل على وصفها بالأنظمة البرلمانية التعددية.
عالجت دراسات ريادية في لبنان هذه الأنظمة الدستورية منذ سبعينيات القرن الماضي. تم مواجهة هذه الدراسات احيانًا في لبنان بتسرّع من قبل قانونيين او ايديولوجيين، او تم نعتها "بالطائفية" او، ما هو أسوأ وأخطر، تعرضت للاستغلال في سبيل إرساء تعسف اقلية abus de minorité او دكتاتورية اقطاب قبلية élitocratie. وتم استغلال التمييز الايجابي في علاقات زبائنية. ويتم تشكيل حكومات كبرلمانات مصغرّة بحيث يصبح النظام غير قابل للحكم الا من خلال باب عال او يستحيل اتخاذ قرار الا بتبادل منافع.
الثقافة الدستورية في لبنان مُصابة غالبًا بثلاث ظواهر: 1) عقدة خجل تجاه البنية الدستورية "الطائفية"، او 2) عقدة اغتراب ثقافي aliénation في ما يتعلق بالبناء القومي مع الاستشهاد بنماذج في فرنسا وأميركا وبريطانيا لا علاقة لها بلبنان، او 3) فقدان الذاكرة في كل ما يتعلق بالتجربة اللبنانية وسياق المواثيق في لبنان منذ 1920 وبيان كاظم الصلح سنة 1936 وميثاق 1943 وجذور وثيقة الوفاق الوطني - الطائف سنة 1989 التي هي، تاريخيًا ومضمونًا، انتاج لبناني أصيل باستثناء البند المتعلق "بإعادة انتشار القوات السورية".
"علّمهم قانون دستوري"!
كمثال لمدى إغتراب الثقافة الدستورية في لبنان وابتعادها مسافات كونية عن الدراسات المقارنة اليوم ما حصل في محاضراتي في كلية حقوق حيث أدرجت إشكالية المادة 95 من الدستور حول التمييز الإيجابي او الكوتا. ورد لي من مدير الفرع: "عَلِّمهم قانون دستوري!" في سنتي الأولى في الحقوق كطالب نلت على مادة "القانون الدستوري" علامة 18/20 لكني، منذ ذلك الوقت، قلت لنفسي: ما تعلمته مفيد ولكن لا علاقة له بالدستور... اللبناني!
ليست "الطائفية" مفهومًا علميًا concept/notion، ولا تصنيفًا حقوقيًا catégorie juridique، اذ تتضمن عبارة "طائفية" في الاستعمال المتداول ثلاثة عناصر:
1) الإدارة الذاتية الحصرية في بعض الشؤون المتعلقة بالأحوال الشخصية والتعليم (المواد 9 و10 و19 من الدستور)،
2) التمييز الإيجابي او الكوتا وما يتفرع عنها في سياق التقرير ودور رئيس الجمهورية والتوازن بين السلطات (المواد 49، 65، 95)،
3) استغلال الدين في السياسة والسياسة في الدين والذهنية الفئوية عامة (المادة 95).
هذه العناصر الثلاثة مترابطة طبعًا، ولكنها مُتمايزة في التشخيص والمعالجة. في سبيل التوضيح، لا يُعالج اعتماد نظام مدني عام في الأحوال الشخصية معضلة تجنب العزل الدائم ومعضلة تعبئة المشاعر الفئوية في التنافس السياسي. واعتماد نظام مدني عام في الأحوال الشخصية وإلغاء قاعدة التمييز الايجابي لا يعالجان معضلة الاستغلال السياسي للأديان والمذاهب. لكل عنصر من هذه العناصر الثلاثة تشخيصه ومعالجته.
تُعبّر المادة 95 الجديدة من الدستور، المعدّلة بموجب وثيقة الوفاق الوطني - الطائف، عن هذا الالتباس والغموض في استعمال عبارة "الطائفية" ثم عبارة "الطائفية السياسية"! توجب هذه المادة المعدّلة إنشاء هيئة وطنية لوضع خطة في سبيل عصرنة الإدارة الديموقراطية للتعددية في لبنان وتحقيق الانسجام مع المبادئ الدستورية العالمية وشرعات حقوق الانسان. ممن تتشكل هذه الهيئة في حالة شبه عارمة في لبنان من الجهل والايديولوجيا والاغتراب الثقافي والسجالات؟
يقول الرئيس حسين الحسيني خلال برنامج "مرصد الديموقراطية في لبنان" في 29/11/2002 ان وثيقة الطائف "لم تُقرأ ولم تُفهم جيدًا". لو "قُرئت وفُهمت جيدًا" لكان من المنتظر ان تحّث باحثين على تعديل تصريف "الطائفية". إستعمل ميشال شيحا هذا التعبير بين مزدوجين ادراكًا منه ان الموضوع يتطلّب دراية وعلمًا ومنهجية. تُشكل مُنمطات ذهنية وإغتراب ثقافي وايديولوجيا سائدة عوائق لممارسة الفكر، او بالأحرى "التفكر" حسب تعبير القرآن، أي "استعادة الفكر ومراجعته" “repenser, reprendre sa pensée”، كما يقول بول فاليري Paul Valéry.
صدرت حول قاعدة التمييز الإيجابي discrimination positive دراسات مقارنة في إطار "الدليل العالمي للعدالة الدستورية" وفي "مجلة الجمعية العالمية للعلوم السياسية" وفي مؤلفات عديدة حول اختبارات عالمية في سويسرا وبلجيكا والهند... تم خلال ثلاثين سنة في الهند مثلاً تأليف حوالي عشرين من اللجان في سبيل تنظيم قاعدة التمييز الإيجابي بالنسبة لطبقة "المنبوذين" بهدف التوفيق بين ضرورة تجنب العزل الدائم والتقيد بمبادئ الكفاءة والمصلحة العامة. هل تم تأليف لجنة واحدة في لبنان منذ 1920 او مجرد اعتماد معايير حقوقية لقاعدة التمييز الإيجابي؟ ولا بأس بعد اليوم بالتغني "بالصيغة اللبنانية" كمبدأ، شرط التركيز على قواعدها الحقوقية والدستورية والثقافة المواطنية الملازمة لها وشروط ممارستها.
اطاران حقوقيان لفهم المواد الست
ليستمر علماء الدستور في تفسير الدستور اللبناني في مختلف مواده العامة والمشتركة مع الكثير من الانظمة الدستورية في العالم. لكن المواد الست التي نسميّها، شعاراتيًا، "طائفية" تندرج في إطارين في العلم الدستوري المقارن اليوم واتخذ لبنان اساسًا كحالة لبناء نظرية الأنظمة البرلمانية التعددية:
1. التعددية الحقوقية pluralisme juridique في سبيل إدارة التنوع الديني والثقافي: تندرج المادتان 9 و10 من الدستور في إطار فدرالية شخصية. وتندرج ايضًا في هذا السياق المادة 19 حول حق رؤساء الطوائف في مراجعة المجلس الدستوري في شؤون مُحددة. ليست الضمانات للطوائف استقلالية، بل إدارة ذاتية autonomie personnelle مرجعيتها الدولة. الهدف حماية الحريات الدينية وحرية الضمير وليس ممارسة سلطة دينية تحت ستار الحريات. هذه الإشكالية مطروحة في بلدان عدة.
ويُطرح سؤال: ما هي مفاعيل الفدرلة الجغرافية والفدرلة الشخصية fédéralisme personnel على صناعة القرار؟ في الفدرالية الشخصية كما في لبنان الحكومات سلطة "إجرائية"، كما ورد في الدستور، وليس ائتلافًا برلمانيًا مصغرًا خلافًا لحالتي سويسرا وبلجيكا وهما فدرالية جغرافية.
اما المادة 65 الجديدة من الدستور في فرضها أكثرية موصوفة majorité qualifiée في القرار في مجلس الوزراء بشأن 14 قضية محددة فهي روعة في المخيلة الدستورية بهدف تجنب طغيان اقلية وطغيان أكثرية. اما "التعطيل" فتسميته الحقوقية طغيان اقلية abus de minorité.
2. التمييز الإيجابي او قاعدة الكوتا discrimination positive: تهدف هذه القاعدة الحقوقية (وانحرافها هو "محاصصة"!) الى ضمان المشاركة وتجنب العزل الدائم.
مسار خطير وغير بريء
أصبح اليوم جهل المضامين الدستورية والحقوقية للمواد الست في الدستور اللبناني خطيرًا، وفي كل الأحوال غير بريء، لسببين:
1. ليست مواد خارج القانون: يتم غالبًا التعامل مع المواد الست وكأنها خارج القانون hors-la-loi بينما هي خاضعة لمعايير حقوقية حرصًا على المبادئ الديموقراطية العامة.
2. صك براءة لسياسيين: يوفر عدم فهم القواعد الحقوقية لهذه المواد ونعتها "بالمحاصصة"، صك براءة لسياسيين في قولهم: "هذا هو النظام"! كلا ليس هذا النظام! ويقول سياسيون مُتلاعبون بالدستور: "طالما ان النظام طائفيًا نريد حصتنا"! ليست قاعدة التمييز الإيجابي، وليست المشاركة الديموقراطية، وليست الإدارة الحصرية في بعض الشؤون، "حصة" أحد، بل ضمانات حقوقية خاضعة لمعايير.
* * *
ليست البحوث اليوم حول الإدارة الديموقراطية للتعددية الدينية والثقافية بحاجة الى من ينبذها، بل الى من يسعى الى تصويب مساراتها وتطويرها واعتماد معايير في ممارستها استناداً الى حالات وخبرات مقارنة.
ان الفرضية ان أنماطا أخرى هي أكثر فاعلية هو منحى ايديولوجي يتجاهل ان كل منظومة – كما في الجسم البشري - لها ظواهرها الصحية وظواهرها المرضية. لكن ما زال يتشبص البعض في اعتبار هذه الأنماط مرضية اساسًا في حين ان لكل منظومة بشرية امراضها وفي علم الطب يستحيل معالجة أي مرض الا بأدويته هو، لا بأدوية غير خاصة به.
هل ما ورد في هذا العرض تبرير للنظام الدستوري اللبناني؟ نعم في الأسس والمبادئ والقواعد والجذور التاريخية. كلا في الممارسة! الآباء المؤسسون للميثاق اللبناني وللدستور، أبرزهم ميشال شيحا وبشاره الخوري ورياض الصلح وكاظم الصلح...، وكذلك في بعض المجتمعات التعددية، هم من العباقرة. من أتى بعدهم كان غالبًا غارقًا في الايديولوجيا او الزبائنية ولم يتابع التصويب والتطوير وإرساء المعايير استنادًا الى الدراسات التطبيقية وتطورات العلم الدستوري المقارن.
عضو المجلس الدستوري | |
|